أنا «سوشي»

TT

زوجان شابان هادئا الملامح حديثا المظهر من دون افتعال، تعلو وجهيهما ابتسامة خفيفة، ويجلسان على «كنبة»، وبينهما طفل رضيع. يحمل الأب ورقة كتب عليها بالإنجليزية «أنا شيعي»، وتحمل الزوجة ورقة كتبت عليها «أنا سنية»، فيما وُضعت ورقة على طفلهما الجالس بينهما كتب عليها «أنا سوشي». حاول كثيرون ترويج هذه الصورة عبر «تويتر» و«فيس بوك» في لبنان، بعد التفجير الانتحاري المزدوج، الذي استهدف السفارة الإيرانية في بيروت، وهو الاعتداء الذي دشن بدموية تليق بتاريخ تنظيم «القاعدة» عهد الانتحاريين في لبنان. طبعا أعقب التفجير فائض من مشاعر الكراهية المذهبية التي لا تكل عن استنفار أبشع ما فينا، ونضحت صفحات إلكترونية عديدة بالتهليل للاعتداء، وانخرط في المعارك الافتراضية تلك مذعورون وعصابيون، حتى طافت بالصفحات تهديدات تكثفت فيها كل أزمات الهوية، واشتعل في مضامينها سعار الطوائف بأبشع أشكاله. وسط كل هذا ظهر طفل «السوشي».

تداول كثيرون الصورة لكن حجم الاهتمام بها كان أقل بما لا يُقاس عن تداول الشتائم والتهديدات المذهبية، حتى إن البعض كتب معلقا بحزن أن الصورة جميلة، لكن لا مكان لها في عالمنا العربي اليوم.

ليست حالة الزوجين وطفلهما هذا فريدة، وليست الأولى حتما، فسبق أن احتفلنا الشهر الماضي في لبنان بولادة أول طفل يحمل هوية خالية من المذهب، في أول حالة زواج مدني في لبنان، كما أن هناك العديد من العائلات المختلطة مذهبيا ودينيا. لكنّ في مبدأ «السوشي» هذا تحديا مغريا هذه الأيام، حتى ولو كان التعبير هذا قد بات «كليشيه» يعتوره ربما بعض التسطيح؛ فمع تكثيف أزمات الهوية والكيان يصعب الحديث أو الترويج للاختلاط والابتعاد عن العصبيات والتقوقع.

أذكر أنني أول مرة سمعت بتعبير «السوشي» من خارج قاموس المطبخ الياباني كان قبل عامين، في الولايات المتحدة، حين اجتمعت مع بنات شقيقتي وأقارب لي كانوا يعرّفون أنفسهم على أنهم «سوشي»، أي أنهم نتاج زواج سني - شيعي. تبين لي آنذاك أن التعبير رائج بعض الشيء، وسط جيل مسلم شاب في أميركا والغرب. قالت لي ابنة أختي الشابة مبتسمة: «نحن طائفة جديدة والمستقبل لنا». كان ذلك قبل عامين.

لكن حين رأيت صورة الزوجين وطفلهما «السوشي»، تذكرت ما قالته لي ابنة أختي، وشعرت بالانقباض؛ فالمستقبل الذي تفاءلت به يبدو سرابا هذه الأيام، وشعرت أننا بتنا أمام واقع «السوشي»، كما لو كنا حيال فصيل نادر، في حين كان شائعا وطبيعيا في السابق.

كيف لا، ونحن نسمع من قضاة في المحاكم الشرعية عن انخفاض نسب الزواج المختلط السني الشيعي، وارتفاع معدلات الطلاق في النطاق نفسه. لست في معرض الخوض في المسؤوليات، فالمهم هنا هو النتائج، فما نحن بصدده هو ذلك الشرخ العميق الذي ضرب في عمق حياتنا كأفراد وكعائلات ومجتمع. واليوم صار لهذا الانقسام القاتل حامل جديد.. إنه الـ«سوشيال ميديا»، وهو هنا وسيلة إعادة إنتاج للمذهبية تكشف عن أن الحداثة إذا ما أسيء توظيفها تصبح أداة موت بدل أن تكون أداة تقدم. أليس هذا ما حصل تماما، عندما قرر الإرهابيون استعمال طائرات مدنية لقتل المدنيين؟! إنها صورة يتيمة لطفل «سوشي»، وهي لن تبدل من معدلة السعار السني الشيعي، لكنها حتما تشبه نسيما لطيفا وسط كل هذه الكراهية.

diana@ asharqalawsat.com