أفق المغرب العربي

TT

قد يقال إنه يلزم التوفر على قدر هائل من التفاؤل حتى يمكن للمرء أن يتحدث الآن عن المغرب العربي أفقا للتفكير والعمل. والحق أن هذا الرأي لا يدل بالضرورة على جنوح إلى التهويل، بشهادة ما تشهده المنطقة في الوقت الحالي من أحداث جسام. فمن جانب أول نرى أن ليبيا تتخبط في أصناف من الفوضى تتهدد الوحدة الوطنية بكل ألوان الشر، ولا تزال نشرات الأخبار تحمل إلينا، يوميا، أنباء مؤسفة عن التقتيل والاختطاف والإرهاب، ولا تزال الدولة في حال من الغياب ولا يبدو في الأفق المنظور سبيل للخروج من النفق. ولا تزال تونس ما بعد زين العابدين بن علي تترنح بين سطوة الإسلام السياسي وتئن تحت دواعي الفرقة والاختلاف. لا يزال البلد الذي انطلقت منه الشرارة الأولى لـ«الربيع العربي» في وضع العاجز عن الوصول إلى استجماع الشروط الدنيا لإقامة حكومة ائتلاف وطني تحترم وفاق «الترويكا»، فلا تكون ناطقة وفاعلة باسم الإسلام السياسي وحده.

وبين المغرب والجزائر لا تزال الحدود البرية مقفلة بين البلدين، ولا يزال هناك تناقض في هذا المعنى بين خطاب إرادة شعوب المغرب الكبير وواقع الحال. ثم إن الأوضاع الأمنية لا تزال أبعد ما تكون عن الاستقرار في الحدود الليبية - الجزائرية من جهة أولى، وفي الحدود الليبية الجنوبية من جهة ثانية، ولا يزال خطر «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، من جهة ثالثة، يتهدد المناطق الحدودية في البلدين المشار إليهما ويحمل كلا منهما (على نحو مغاير) على الانكفاء على الذات وعلى تعليق المشكلات الداخلية على شماعة الإرهاب (والإرهاب، على كل، معطى واقعي لا وهمي يتربص بالمنطقة الدوائر، وهو أشد ما يكون خطورة وإيلاما بقدر ما يكون التوجه نحو الانكفاء على الذات ومعاداة دول المنطقة بعضها لبعض أشكالا من العداء).

أليس من الإسراف في التفاؤل أن نتحدث عن المغرب العربي في وقت تبدو فيه كل المؤشرات سائرة في خط السير المغاير؟

لا نرى أن الأمر يتعلق بتفاؤل مثلما نرى أنه لا يستدعي التشاؤم، والقصد عندنا أنه أمر يستوجب التفكير خارج دائرتي التفاؤل والتشاؤم معا، بل إنه حديث تستدعيه الواقعية متى استحضرنا في وعينا التاريخ البشري ومنطقه، ومتى أحسنا الإصغاء إلى المنطق الذي يحكم العصر في زمن يحكمه - ضدا على الرؤية التي تعاني من الخلل ومن الرمد في العيون - التوجه نحو تشييد المجموعات الكبرى، مع مراعاة شروط ومعطيات المكونات المحلية داخل هذه الكيانات الكبرى.

الفكرة البسيطة التي ندافع عنها تقبل الصياغة في العبارة الواضحة التالية: لا سبيل، عند كل دولة من دول المغرب العربي الخمس، لتشييد صرحها كاملا، ولتحقيق هويتها الوطنية، وضمان أمنها الاقتصادي، سوى الإقبال على العالم من حولها (جهويا - عربيا وإسلاميا وأفريقيا - ومتوسطيا بحريا، وعالميا) وأن تجعل الدولة المغرب العربي الكبير أفقا للتفكير ومجالا للحركة والفعل. وفي عبارة أخرى نقول: المغرب العربي الكبير خيار استراتيجي منطقي وطبيعي، ومجال ضروري لتحقيق الهوية الثقافية، وضرورة سياسية - اقتصادية معا بالنسبة لكل دولة من الدول الخمس (موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا).

والرأي عندنا أن هذه الحقيقة البسيطة (أو الأولية كما يقول الفلاسفة)، ليست من الأحلام الوردية، وليست تمت بصلة إلى آيديولوجية القومية العربية في تجلياتها المختلفة (وقد يعلم البعض تصدينا بالنقد الشديد لهذه القومية منذ ثمانينات القرن الماضي واجتهادنا في الإبانة عن الأخطاء الفكرية التي تحكمها وعن إرادة الهيمنة وبسط النفوذ التي كانت تغذيها في الأغلب الأعم من الأحوال). ونحسب أن هنالك اليوم ما يكفي من الأبحاث العلمية، في مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة، للتدليل على صدق هذا الاعتقاد مثلما أن هناك من الدراسات الميدانية ما يؤكد هذا الزعم ويقويه.

ليس غرضنا في حديث اليوم أن نبرهن على صحة هذه الأطروحة، ولا أن ندافع عنها، فلن نقدر على الإتيان بجديد في الموضوع، ولن نتجاوز التذكير بالأفكار الكبرى التي تبتعد عن مقتضيات التكامل الاقتصادي والمصالح التجارية المتبادلة والإمكانات التي تتيحها السوق الكبرى التي تملأ شمال أفريقيا برمته، وتفتح الآفاق الرحيبة على الدول الأفريقية جنوبا وعلى محيط البحر البيض المتوسط في طرفه الشمالي. ولن نضيف جديدا لما انتهت إليه الدراسات الإثنولوجية والدراسات الثقافية، في مختلف مجالات الفعل الثقافي، بل ربما لم تكن هناك فائدة في تقرير ما كان عند الدارسين مقررا مؤكدا.

متى كانت البنيات الاجتماعية متقاربة متشابهة، وهذا هو الشأن في الدول المغاربية الخمس، وكانت الأنساق الثقافية واحدة (بالنظر إلى مكونات كل نسق من الأنساق)، فضلا عما أسلفنا الإشارة إليه من الضرورات الاقتصادية والأمنية، فإن الحلول الفعلية لا المتوهمة لا يمكن أن تلتمس خارج دائرة التنسيق والعمل المشترك بين الدول من جانب أول، وبين عناصر ومركبات المجتمع المدني من جانب ثان. ليس في انكفاء كل دولة من الدول الخمس على ذاتها، وليس في توجهها إلى عقد أحلاف خارجة عن الدائرة المغاربية، إلا تنكر لطبيعة الأشياء، بل إنه من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدا. أما متى أصبح الأمر سعيا لتقويض بناء المغرب العربي الكبير ووضع العصا في العجلات التي تحركه فإن الأمر يملك أن يبلغ درجة الانتحار السياسي وسلوك اختيار غلق الأبواب والمنافذ التي منها الأكسجين وإفساد التربة التي تنتج الزرع وتغذي الضرع.