خديعة ميونيخ الجديدة!

TT

لدى الأوروبيين في تاريخهم الحديث «خدعة» تسمى معاهدة ميونيخ أو إملاء ميونيخ، كما يحلو للتشيك والسلوفاك تسمية هذه المعاهدة بالخدعة لغيابهم عنها. هي اتفاقية وقعت في ميونيخ في 30 سبتمبر (أيلول) 1939 بين ألمانيا النازية، وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وافقت فيها القوى العظمى (وقتها) على إشباع أطماع أدولف هتلر التوسعية في أوروبا. وكان من نتيجة هذه المعاهدة تقسيم تشيكوسلوفاكيا بين كل من ألمانيا وبولندا والمجر، وتذرع أدولف هتلر بحجة المواطنين الألمان الذين يعيشون في المناطق الحدودية الفاصلة بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا في منطقة السوديت على وجه التحديد، والذين يمثلون غالبية سكان هذه المنطقة، وسمح لهتلر بأن يقضم بعض ما يريد من الجغرافيا، فلم يشبع، بل فتحت شهيته.

بعض المراقبين في الخليج يتخوفون من أن الصفقة «الأميركية الإيرانية» قد تكرر لديهم ما وقع وقتها في «إملاء ميونيخ» أو «خدعة ميونيخ»، وقتها رجع رئيس الوزراء البريطاني (نيفل تشامبرلين) رافعا قبعته للصحافيين، وهو ينزل من سلم الطائرة بأنه حقق انتصارا لمنع الحرب في أوروبا، ومن تصاريف القدر، أن تلك المعاهدة كانت من أسباب قيام الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح ملايين من البشر، ودخل تشامبرلين تاريخ أوروبا الحديث على أنه «المغفل» الذي خدع! بالطبع لا يكرر التاريخ نفسه بالطريقة ذاتها، ولكنه يعيد بعض الأحداث بشكل هزلي، حيث نشطت الدبلوماسية الإيرانية الجديدة لمحاولة فصل الملفات بعضها عن بعض.

يتساءل البعض في الخليج هل خدعة ميونيخ السابقة هي اليوم خدعة جنيف الجديدة، حيث تواطأ الجميع على إظهار الاتفاق الإيراني - الأميركي على أنه «نصر لكل جانب»، لا نعرف من «المغفل» الذي سوف تظهره الأيام المقبلة، إلا أن التطورات تحثنا على أن «المغفل» ربما يكون من الجانب العربي.

لقد قام وزير خارجية طهران بزيارة بعض عواصم الخليج، حاملا معه تطمينات وتمنيات، البعض يراها تقع في إطار التخدير لا التطمين، فهو قد قرر أن يزور العواصم الجارة واستثنى منها المنامة، وهي التي تعاني اليوم من التدخل الإيراني السافر. يحضرني في هذا المقام ما حدث منذ سنوات، عندما طافت وفود إيرانية دول الخليج واستثنت إحدى الدول، ولما جاء الوفد أخيرا إلى تلك الدولة، وكنت شخصيا حاضرا اللقاء، قال المسؤول الخليجي معاتبا: لقد طفتم حولنا ولم تزورونا؟ رد رئيس الوفد الإيراني بفارسية مليئة بالكلمات العربية، أنتم مثل «الكعبة» يطوف الناس حولها ولا يدخلونها. وقتها صدرت مني ضحكة، فسألني المسؤول: هل تعرف الفارسية؟ قلت لا ولكني أعرف الخباثة عندما تمر بي! قد تبدو المنامة اليوم «كعبة» النظام الإيراني، التي لا يطاف حولها ولا يدخلها لأنه يعرف أنه إن فعل فسوف يبدو لمناصريه أنه قد ورطهم!

أما الأكثر وزرا مباشرا، فإن السيد محمد جواد ظريف يعرف قبل غيره أن قوات إيرانية مدججة بالسلاح وخبراء حرب إيرانيين يعاونون نظام بشار الأسد في ذبح السوريين، وهدم المنازل على رؤوس النساء والأطفال، بل يعرف أنه يناصر نظاما قام بدم بارد باستخدام سلاح كيماوي محرم على شعبه.

من جهة أخرى فإن السيد ظريف يعرف أيضا أن بلاده تساند خراب دولة عربية هي لبنان، على أن تصبح دولة فاشلة، عن طريق منع حزبه، المرتبط بطهران، تشكيل حكومة هناك، محتفظا بسلاح كثير منه إيراني، من أجل إرهاب الفرقاء الآخرين في الوطن وبقية المواطنين وحرمانهم من دولة طبيعية.

وجود ظريف في الخليج تزامن مع تصريحات قادمة من مبنى الأمم المتحدة وصادرة من مندوب نظام تسانده طهران، هو بشار الجعفري (يا له من اسم مركب له معنى) يقول فيه بصريح العبارة إن الخليجيين (وذكر جميع العواصم الخليجية واحدة تلو أخرى) يساندون بالمال والسلاح «التكفيريين» المقاتلين في سوريا، بل يذهب السيد جعفري إلى القول إن الخليجيين يطلقون السجناء المدانين بالإرهاب من سجنهم كي يذهبوا للقتال في سوريا!!

ويعرف السيد ظريف أيضا أن الحكومة التي ينتمي إليها استمرت في تغيير أسماء تاريخية لثلاث جزر عربية، هي طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى، العائدة ملكيتها للتراب الإماراتي، ودولته تصر على عدم قبول حتى الذهاب إلى تحكيم دولي حول هذا الملف الشائك، كما أن هناك ملفات مختلفا عليها، وهي الحدود البحرية التي تناهض إيران أكثر من دولة خليجية السيادة عليها، بسبب ما يقع تحت سطحها البحري من ثروات ترغب إيران في الاحتفاظ بها كليا وحرمان الجيران من حقوقهم.

الملفات كثيرة، فماذا يحمل ظريف من تطمينات إلى دول الخليج، طبعا غير كلامه المعسول؟! تلك بعض الملفات التي تظهر على السطح بين دول الخليج وبين إيران. فإن كانت النيات صادقة في «تصفير المشكلات» كما يقول السيد وزير خارجية إيران، فإن عليه النظر في هذه الملفات وطرحها للنقاش: ملف الحدود البحرية، الجزر، التدخل في العراق العربي، وفي سوريا العربية ولبنان العربي، بجانب التعضيد المالي والإعلامي لقوى تأتمر بأوامر طهران.

لقد كنا هنا في السابق، وزودنا بالكلام المعسول أيضا، كان هنا السيد هاشمي رفسنجاني، وكان هنا أيضا السيد محمد خاتمي، وقيل وقتها كلام جميل خلف الأبواب المغلقة، ولكن كما نعلم جميعا، خلف كل باب مغلق فضاء من المصالح والمطامع يتحكم فيها أناس كلمتهم أهم وتأثيرهم أكبر من الإدارة التي يرأسها رئيس الجمهورية الإيرانية، هي قابعة هناك في تاريخ طويل من التطلع إلى الهيمنة.

لا يريد أحد في هذه المنطقة أن يعود إلى سيناريو قديم يشابه «خدعة ميونيخ»، على الإخوة الإيرانيين أن ينظروا في تاريخ تدخلهم في الخاصرة العربية ويعيدوا مراجعة ملفاتهم، فهم لا يستطيعون أن «يحتفظوا بالجزرة ويأكلوها في نفس الوقت»، فلا يوجد عربي عاقل يشاهد بأم عينيه يوميا هذا التدمير للإنسان السوري الذي تشارك فيه طهران، ولا يحمل شيئا من المرارة تجاه تلك المناصرة، كما لا يرتاح عربي إلى اختطاف طهران لعاصمة العباسيين، بغداد، وأيضا يرى تحكم حزب الله (الإيراني) في مقدرات بلد مثل لبنان، وجعله بلدا مشوها بسبب سياسات الحزب هناك، إلا ويشعر أن هناك عداء مضمرا لكل ما هو عربي تحت أغطية شتى من الشعارات صادرة من طهران.

إن كانت الدبلوماسية لا تسمح بأن يقال للسيد محمد جواد ظريف مثل هذا الكلام الواضح، فعليه أن يسمعه دون مجاملة، ليس شوقا إلى التصعيد أو المناكفة، ولكن حبا في وفاق قائم على الاعتراف بالمصالح والحقوق التي يرغب السيد ظريف في إشاعتها بيننا، فعليه أن لا يتجاوز تلك الملفات العالقة، ويبدأ بإقناع رفاقه بأن التدخل في الخاصرة العربية يثير الكثير من القلق لدى جيرانه، وأنهم قد درسوا خديعة ميونيخ ولا يرغبون في تكرارها.

آخر الكلام:

قال السيد حسن نصر الله علنا إن من حاول تفجير السفارة الإيرانية في بيروت وراءه المخابرات السعودية. هناك مثل خليجي ينطبق على هذا القول هو «كل يرى الناس بعين طبعه»!