الإنسان.. والدولة.. والحرب

TT

لم تعد الأخبار اليومية مثيرة للاهتمام، من السهل أن تجد دعاية عن نوع جديد من البطاطس المقرمشة بعد أن ترى سيلا من الدماء. وصف الراحل إريك هوبزباوم العصر الذي عاشه بأنه «عصر مثير» وهذا هو عنوان مذكراته المهمة، ربما كانت أحداث القرن العشرين مثيرة ليست بسبب الحروب العالمية والأهلية المليونية، وإنما بسبب غموض تلك الأحداث وصعوبة فهمها نظير بطء الأداة الإعلامية، وفقدان هذه التقنية المثيرة التي تدور على أصابع أكفنا هذه الأيام، الشيء المثير فعلا هو غياب الإثارة عن هذه الأحداث.

لم تعد المجازر سوى وقود للمشاريع السياسية وصفقات الدول المتنفذة التي تريد استعمال المسائل السياسية والأزمات وأشلاء الأطفال والدماء ضمن إطار النفوذ في الموانئ، وبيع الأسلحة، وتجديد دماء الاقتصاد.

حين كتب توماس هوبز عن سيادة الشر، وذئبية الإنسان، كان يحدد مسارات الإنسان تجاه الحرية وقوانين الطبيعة والسلطة والكنيسة، وعلاقة الإنسان بالدين، كان الإنسان مركزا في تحليله، تدحرجت هذه الرؤية على مدار القرون الثلاثة التالية لنصل إلى القرن العشرين بطرح ميشال فوكو كتابه: «يجب الدفاع عن المجتمع» ومن ثم ليتدخل في دراسة تكوين الإنسان الذاتي بعد أن طرح فكرة «موت الإنسان» مطالبا بإلغاء قانون السيادة، وتحليل الحرب، كما حث على التخلي عن أفكار توماس هوبز باعتبارها ليست مقنعة ولا منطقية، طالب فوكو بتحليل «الحرب» ضمن تكوينات الإنسان.

من اللافت مؤخرا صدور كتاب أستاذ العلاقات الدولية كينيث والتز وهو أطروحته للدكتوراه بعنوان: «الإنسان والدولة والحرب» كان الفصل الأول مهما لجهة تناول الرأي الفلسفي حول الإنسان والدولة والحرب. وفيه يتطرق إلى آراء الفلاسفة حول الحروب وعلاقتها بالإنسان والعقل والتكوين، منذ العصر الإغريقي إلى أوغسطين ومالتوس وجونثان سويفت ودين إنج ورينولد نيبور وأسبينوزا إلى هوبز ومن ثم من تلاه روسو وكانط وهيغل. وفي منتصف الكتاب تحدث عن رأيه بالموضوع كاتبا: «تصرفات الدول أو على نحو أدق تصرفات الرجال الذين يمثلون الدول، تشكل جوهر العلاقات الدولية، ولكن البيئة السياسية الدولية لها تأثير على طرائق سلوك الدول».

الحرب برأيه تنشأ لا من خلال سلوك دولتين، وإنما من خلال سلوك مجموع الدول التي تؤسس للبيئة السياسية في العالم.

كل هذا الضغط السياسي العالمي، أو البيئة السياسية إنما يؤثر على نمط اشتغال المفاهيم في المجتمعات، فالفشل المترابط المتراكم المتناسل الذي يعاش في الدول النامية جعل مفاهيم كبرى تتراجع قيمتها أصلا، وأضرب مثلا بمعاني الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، تلك الشعارات البراقة التي كانت آسرة وساحرة منذ الثلث الثاني من القرن العشرين وحتى هذا العصر، غير أن الذي حدث تكون حال من «الفردانية» التي تؤسس للهامش المريح، بعيدا عن الضوضاء أو النضال أو الجنون السياسي الذي جرب ولم ينجح.. لكن السؤال لماذا لم يمت مفهوم التنمية؟!

قبل أيام فازت الإمارات العربية المتحدة بإقامة معرض «إكسبو» على أرض إمارتها دبي، وهذا الفوز له دلالة حدثية سياسية بالغة، ذلك أن مفهوم «التنمية» لا يزال فعالا، ولم يخذل الدول التي تبنته، لم تعد الشعارات هي حلالة المشاكل، بل أضحت الرؤية التنموية التي تكفل الأمن والاستقرار والرخاء وهي الأساس لأي استراتيجية سياسية واجتماعية واقتصادية. رأى بعض الفلاسفة ومنهم ماكس فيبر أن النماذج ليس شرطا أن تتطابق، ودلل على ذلك بالتنوير الأوروبي الذي لم ينطبق له مثيل في العالم، من هنا يكون التقليد ممتنعا، على عكس الاستلهام. التنمية تجعلك تتجاوز تجريب فشل الدولة لتنتقل إلى النجاح المحقق، وآية ذلك أن الدول الفاشلة تحيط بالخليج من كل مكان رغم كثافة صناديق الاقتراع التي تحتويها.

كل هذه التحولات على مستوى «انقراض الإثارة الخبرية» وانتهاء زمن الدهشة بالنبأ، وصعود صيغ الحرب والنزاع والصراع، وتفتت المفاهيم الكبرى والشعارات تضع صيغ النضال، وأدبيات المقاومة، وجبهات الهوية أمام اختبار حقيقي تاريخي. فخطورة الذي يجري أننا لا نعلمه من دون أن ندري عنه، نستمع إلى حدث ضخم من دون أن يثير فينا الغرابة أو الدهشة، هذا هو القرن الحادي والعشرون القرن الذي لا نجد فيه ما يثير، تم اختيار الهامش ملاذا والتبلد وسيلة ولو رأيت ثم رأيت ضعف دهشتنا بخبر أضخم مجزرة لقلت إن هذا المنصت للقناة على أريكته رجل مافيا متبلد، حقا كما هو قول البردوني في صدر بيت له: «فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري».