ثورة مانديلا التي لم تنته

TT

رغم كل إنجازاته الكبيرة، مات نيلسون مانديلا وحلمه لجنوب أفريقيا لم يكتمل، فقد تحققت الديمقراطية والسلام، لكن التناغم العرقي، والعدالة الاجتماعية والمساواة الحقيقية لا تزال تبدو بصورة ما حلما بعيد المنال.

لا يزال اقتصاد جنوب أفريقيا يعيق تطلعات معظم مواطنيه من السود، الأمر الذي يهدد استدامة مشروع المصالحة الوطنية الذي يعد بمثابة جزء أساسي من تراث مانديلا.

أرى جنوب أفريقيا التي وصفها مانديلا في حفل توليه الرئاسة عام 1994 «أمة كقوس قزح في سلام مع نفسه والعالم»، كخطوة افتتاحية لتكتيك رئيسي، فكانت بمثابة تعليق مقتضب للواقع من أجل نهاية اللعبة التي علم مانديلا أنه لن يكون موجودا لاستكمالها.

قوس قزح مانديلا المثالي عن بلد متعدد الأعراق تجنب الحرب الأهلية، سامح فيه السود البيض على نظام الفصل العنصري وتعلم الجميع العيش معا. لقد كان عظيما، وضرورة في حينه، بل هو المثل الأعلى الذي ينبغي أن يدفن معه. اليوم، نحن بحاجة إلى ثورة اقتصادية إذا أرادت جنوب أفريقيا الاستمرار على طريق المصالحة.

وكحال الكثير من الخطوات الانتقالية على طريق الديمقراطية، كانت دولة قوس قزح المثالية بحاجة للحفاظ على تماسك هذا البلد الذي كان على وشك الانقسام. وقامت بذلك عبر تخفيف شعور البيض بالذنب وتأجيل مطلب الأغلبية السوداء بالعدالة الاجتماعية المباشرة.

أشاع مانديلا خلال التسعينات، جنبا إلى جنب مع رئيس الأساقفة ديزموند توتو رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، صورة شخصية وطنية جديدة جعلت من الممكن التركيز بشكل أساسي على المصالحة العرقية، وتعزيز المؤسسات الديمقراطية وخلق صحافة حرة، تشكل كل الشروط اللازمة لتحويل سلام مؤقت إلى سلام أكثر ديمومة.

وفي مسعى لتحقيق قوس قزح المثالي هذا كان على مانديلا والمؤتمر الوطني الأفريقي إسكات، أو تهدئة أو تهميش بعض الحلفاء داخل حركة التحرير الذين طالبوا ليس فقط بثورة ديمقراطية بل اقتصادية أيضا.

يعتقد الكثيرون في جنوب أفريقيا وأماكن أخرى خطأ أن مانديلا والمؤتمر الوطني الأفريقي أصبح أكثر تقبلا للرأسمالية فقط خلال السنوات الانتقالية. الواقع، أنهم أكدوا منذ أمد بعيد أن جنوب أفريقيا عادلة وديمقراطية يمكن أن تبنى من دون ثورة اقتصادية.

وقال مانديلا في شهادته في محاكمة ريفونيا عام 1964 التي حكمت عليه بالسجن مدى الحياة: «إن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لم يدافع أبدا في أي فترة من تاريخه عن التغيير الثوري في البنية الاقتصادية للبلاد، كما أنه لم يدن أي مجتمع رأسمالي في أي وقت مضى». وهو نفس ما حدث عندما انتخب رئيسا بعد 30 عاما.

لا يعني ذلك أن مانديلا لم يكن يؤيد العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية. فقد كان يعتقد - كما هو الحال بالنسبة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي - إمكانية تحقيق هذه الأهداف من دون تفكيك النظم والترتيبات الاقتصادية التي خلقت الفقر والتفاوت الفاحش على نطاق واسع في جنوب أفريقيا. فقد كان مانديلا ورفاقه من الإصلاحيين في جنوب أفريقيا إصلاحيين لا ثوريين.

نتيجة لذلك، تستعر جنوب أفريقيا اليوم بالتوتر الذي يتحول في بعض الأوقات إلى فوضى كما حدث في مذبحة عمال مناجم البلاتين في أغسطس (آب) 2012، والاضطرابات التي وقعت بعد أشهر قليلة في مقاطعة الكيب الغربية، حيث تظاهر العمال ضد تقاضيهم سبعة دولارات للعمل بدوام كامل. ولا تزال الكثير من الهياكل الاقتصادية التي أبقت السود في حالة من الفقر في ظل الفصل العنصري مكانها، ولكن في بعض الحالات أصبح معارضو الفصل العنصري أكبر المدافعين عنها وليسوا فقط مستفيدين.

سيترك مانديلا جنوب أفريقيا تقف عند مفترق طرق في مواجهة مسارين؛ أحدهما طويل ومتعرج: وهو يعني استمرار المساعي نحو اقتصاد أكثر مساواة وعدالة. أما المسار الآخر فهو مقاومة، ويتمثل في ترك الأمور على ما هي عليه. هذا المسار يبدو ممهدا وخاليا من العثرات، ولكنه قد يتحول في المستقبل إلى طريق وعر مليء بحفر الفوضى.

بإمكان جنوب أفريقيا أن تقوم بالخيار الصعب الآن، بالتحرك نحو العدالة الاجتماعية والاقتصادية، أو أن تدور، وربما إلى الأبد، في طريق إلى ما لا نهاية.

* خدمة «نيويورك تايمز»