ابن بطوطة في طولون

TT

على رصيف ميناء طولون، جنوب فرنسا، في مواجهة المراكب المقبلة التي تأخذ مكانها في المرسى وتلك الذاهبة إلى ما وراء اللجة، ينتصب تمثال للكونت دو كوفرفيل، أميرال البحرية الذي كان، قبل وفاته في بدايات القرن الماضي، واحدا من أشهر المدافعين عن حقوق البحارة.

وبما أننا نحتفل، الأربعاء المقبل، باليوم العالمي للغة الضاد، فإن الأميرال، كما تعرفون، لفظة مأخوذة من العربية «أمير البحر». وبهذا، فإن الكونت الفرنسي البحّار لم يكن يقف وحيدا مكشوفا أمام رياح المتوسط بل فوق قاعدة مربعة لنصب يدعى «عبقرية الإبحار». وكان الزوار والسياح يدورون حول وجوهه الأربعة التي يحتفي كل منها بواحد من مشاهير الرجال الذين ركبوا البحر في التاريخ. وقد درت معهم حتى وقفت في مكاني وأنا أهتف: «هذا من عندنا». إنها صورة للرحالة العربي ابن بطوطة مرسومة بالنحت البارز على الحجر وتحتها اسمه مكتوب بالعربية.

غادر ابن بطوطة مسقط رأسه في طنجة، في القرن الرابع عشر الميلادي، قاصدا أن يحج إلى مكة. لكن الرحلة التي كان مقدرا لها ألا تستغرق أكثر من بضعة أشهر، أخذت من عمره ربع قرن. وكانت ثمرتها كتاب «تحفة النُظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار». وفيما بعد، منح السندباد المغربي اسمه للكثير من المرافق في بلادنا: مدارس وقاعات جامعية وساحات وفنادق وشركات سياحة. وعندما تسأل شابة، اليوم، عن ابن بطوطة، ترد عليك بأنه «مول» في دبي. وحتى مطار طنجة، فإنه كان حتى سنوات قلائل يسمى «بوخالف»، نسبة إلى البلدة التي أُقيم على أراضيها. وما زلت أذكر سعادتي يوم هبطت في مطارها الجديد ووجدت أنه بات يحمل اسم ابن بطوطة.

من أين جاءت كنيته؟ سألت العم «غوغل» فأحالني إلى الخالة «ويكيبيديا»، ومنها عرفت أنه سُمّي نسبة إلى أمه، فطومة، ثم تكفلت الألسنة بتحوير الاسم إلى بطوطة. هل تذكرون قصيدة نزار قباني التي يقول فيها إنه يصدّق كل ما قال النبيذ ونصف ما قالته مايا؟ أنا لا أُصدق كل ما تقول الموسوعة الفهيمة وسأبقى مرتابة في معلوماتها، ما دام الأمر يتعلق بقضية تخص عائلة طنجاوية، نامت فوقها عدة قرون. لكن ما لا يمكن الشك فيه هو أن الموساد قام، على مسافة شمرة عصا من جدارية ابن بطوطة في طولون، بتدمير الفرن النووي للمفاعل العراقي «أوزوريس»، قبيل إرساله إلى بغداد في ربيع 1979. كأن الخرائط تأبى إلا أن تحبسنا في محطات الذاكرة المريرة وتسلبنا الحق في أن نكون خفاف الخطو والقلوب مثل بقية السياح.

في منحوتة «عبقرية الإبحار»، يبدو الرحالة المغربي واقفا بعمامته بين دفتي مخطوطة، فاتحا ذراعيه وممسكا بعصا الترحال في اليسرى، وباليمنى قصبة تنبت من أعلاها وريقات نباتية. قد روى في رحلته حكايات عن مخاطر البحر وعن الأعطاب التي تصيب السفن والقراصنة الذين يهاجمونها. هل كان يعرف أن الآلاف من أحفاده المغاربة والعراقيين والسوريين سيلقون بأنفسهم في الزوارق العتيقة، وبين أيدي المهربين وتجار البشر، على أمل الوصول إلى القارة التي تقف منحوتته عليها، في طولون أو كالابريا أو لامبيدوزا، ومنهم من يموت دونها؟

في إحدى محطاته، وصف ابن بطوطة شعور من يمضي بعيدا عن بلاده. ومع اختلاف الأهداف والنتائج، تبقى كلماته دالة على ما عاناه: «رحلت وحيدا لم أجد من يؤنس وحدتي، مدفوعا برغبة عارمة طال انتظارها لزيارة المقدسات المجيدة، وقررت الابتعاد عن كل أصدقائي ونزع نفسي بعيدا عن بلادي. وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور. وبما أن والدي كانا على قيد الحياة، فقد كان فراقهما حملا ثقيلا علي وعانينا جميعا من الحزن الشديد». لقد توفي أبوه وهو مرتحل، فلما عاد إلى المغرب ووصل إلى فاس في طريقه إلى طنجة عرف أن أمه قد فارقت الحياة قبل وصوله ببضعة أشهر.