لماذا على عباس أن يقرأ «الأمير»؟!

TT

القضية الأساسية للاضطراب الكبير في الشرق الأوسط لأكثر من نصف قرن وإفرازاتها السامة التي تداعت بعدها هي ما سماها التاريخ العربي الحديث «القضية المركزية»، وهي قضية فلسطين، ولا أعرف من حسن الطالع أو سوئه، أن ينهال على القضية المركزية الكثير من التراب السياسي وتغشى الأبصار حولها بسبب من قام يدافع عنها.. إنه مكر التاريخ وتلاعبه.

لديّ ثلاثة شواهد على الأقل لهذا المكر؛ الأول ما عرف اليوم عالميا بـ«الإرهاب»، فقد دخل علينا من زاوية القضية المركزية مزايدا ومزمجرا، فقد قررت جماعة أن «دحر الاحتلال الصهيوني في الأرض المحتلة» يأتي عن طريق تزعم جماعات تعبث بالأمن الدولي في مناطق شتى من المعمورة، حتى لو كانت وسائلها إرهابا يعود بالضرر البين. من كابل إلى واشنطن، شهدنا تلك الموجة العاتية، وانتهى الإرهاب ليضرب أهله. مدن عربية شتى قاست منه، وأثناء تلك المسيرة الطويلة نسيت الجماعات تلك «القضية المركزية» لتتحول إلى «داعش» و«النصرة»، وأشكال أخرى من الإرهاب الأسود الممتد اليوم من سيناء إلى البصرة إلى طرابلس!

والشاهد الثاني دخول مجموعات أخرى تسولت «القضية المركزية» وسمت نفسها المقاومة من أجل تحرير فلسطين، وانتهت باستخدام عدتها وعديدها في مناصرة نظام قمعي طائفي وفاسد يقتل شعبه في الشام، ونسيت تلك الجماعة «القضية المركزية»، بل أعطتها ظهرها وزادت حتى نقلت الفرقة والانقسام إلى بلدها زارعة فيه فترة طويلة من عدم الاستقرار.

والشاهد الثالث ما سمي في تاريخنا العربي «الثورات» التي لم يخلُ بيانها الأول من ذكر «تحرير فلسطين» والدعوة الأكيدة لبذل الغالي والنفيس لنصرتها، وانتهت تلك الثورات قاطبة بدلا من تحرير فلسطين لاستعباد شعوبها واستنزاف طاقاتهم، بل وتشريدهم.

هكذا اختفت القضية المركزية لتترك للاعبين الدوليين، ففي أقل من سنة يقوم وزير خارجية أكبر دولة في العالم - حتى الآن - جون كيري، بأقل قليلا من 10 زيارات للدولة العبرية والأراضي المحتلة للدفع بتسوية بعيدا عن كل الضجيج الذي جرى حولها، وبالعكس هيأت لها تلك الأحداث السابقة من «إرهاب ومقاومة وثورة!» النسيان، وصرفت عنها العقول والقلوب في الوقت الذي اعتقد فيه البعض من تلك المجاميع أنها تعيدها إلى قمة الاهتمامات الدولية أو هكذا سوقت كذبا بين مناصريها.

من هنا جاءت النصيحة أن على السيد محمود عباس في ضوء ما يحدث، أن يعيد قراءة كتاب مكيافللي الذي صدر قبل 500 سنة تقريبا، والمعنون بـ«الأمير». وحتى أنعش الذاكرة، فإن كتاب «الأمير» العجيب الذي يمكن قراءته لمعرفة ما يدور حولنا في بداية القرن الواحد والعشرين، يقول في إحدى فقراته: «.. أما إذا احتلت الأمم دولة تختلف لغتها وعاداتها وقوانينها عن لغة وعادات وقوانين الأمم المضمومة، فمن الوسائل الممكنة للسيطرة عليها (على الأمة المغلوبة) أن يذهب الحاكم ويسكن شخصيا في المنطقة المحتلة أو يرسل إليها مناطق استعمار، ويصادق الجيران الأضعف، ويحاول أن يضعف الجيران الأقوى..». هل يريد أحد أن يقرأ نصا أكثر وضوحا لتفسير ما تقوم به إسرائيل اليوم، والذي ربما قرأته الصهيونية العالمية قبل أن يتنبه له أحد من العرب، سواء العاربة أو المستعربة! لقد ترجم الكلام السابق من خلال «المستوطنات»، (يذهب ويسكن شخصيا في المنطقة المحتلة أو يرسل إليها مناطق استعمار)، ولأن الظروف اختلفت فإن الدولة العبرية تنشئ المستوطنات بدلا من سكن الحاكم، والنتيجة واحدة، وهي كما يقول مكيافللي، أقل تكلفة من إرسال الجيوش، أما إضعاف الأقوى في الجوار، ومصادقة الضعيف، فلا يحتاج إلى كثير من الأدلة.

جون كيري في زيارته المكوكية يسوِّق لإدامة الاحتلال، وهو الذي قال علنا إن بعضا من أهله كان ضحية الهولوكوست! وإنه اكتشف الديانة اليهودية من خلال زواج أخ له بسيدة تدين بها! ربما كل ذلك يمكن أن يوضع في إطار تطمين من يشكك أن أمن إسرائيل له أولوية لا تنازل عنها لدى السيد وزير الخارجية، إلا أن خطته التي يسوِّق لها، هي بالضبط التي رسم خطوطها السيد مكيافللي، وما تسرب منها أن تكون المستوطنات دائمة، وأن توضع قوة مشتركة على الحدود بين الدولة الفلسطينية المرتجاة وجيرانها من العرب، وهما الأردن الآن، وربما مصر في وقت لاحق.

كل ذلك يجري دون لفت نظر ولا حتى مناقشة خارج الدوائر الفلسطينية. لقد ترك أمر القضية، بسبب مناصريها الذين توسلوها من أجل أهداف أخرى، وشغلوا المنطقة من أقصاها إلى أقصاها بشعارات جوفاء، وقد قدموا خدمة تاريخية للمحتل أن يملي على الفلسطينيين ما يريد من شروط، ويطبخ التسوية على نار هادئة من انصراف العرب وانقسامهم، لأنه صادق الضعيف، وقلل من مخاطر القوى، وساعده بعض من يدعي عداءه على تشتيت طاقة المنطقة برمتها الاقتصادية والتنموية، بل والعسكرية.

آخر الكلام:

بعض المفاهيم من كثرة ترديدها ننسى أننا الوحيدون الذين اخترعناها وقبلناها، فلا يوجد في العالم إشارة لفترة طويلة من الزمن إلى مفهوم «رئيس الحكومة المقالة» إلا في أدبيات العرب، بالإشارة إلى حكومة حماس، ولم يتوقف أحد ليسأل: إلى متى؟!