مواقف بلا ديباجة!

TT

هاكم أحد أعراض إحدى الظواهر الثقافية المرضية: ليس من المقبول أن تعترض على قانون التظاهر من دون أن تضع الإخوان في قائمة الإرهاب، وتفرش عريضة بمواقفهم السيئة. وليس منطقيا أن تخطئ مواقف الإخوان السياسية من دون نقد للعسكر والتغيير الذي قادوه. وليس مقبولا أن تثني على تضحيات مانديلا وقيمة التسامح العظيمة التي اشتهر بها من دون تذكير الناس بنصرانيته. وأنت متحيز إن أثنيت على فكرة للقرضاوي من دون أن تعلن خلافك مع بقية فتاواه. وإنك تخون قناعاتك الفكرية حين تشيد برأي طرحه غازي القصيبي - رحمه الله - من دون أن تقدم تحرزات بنقدك له ولرواياته وطروحاته. وأنت انبطاحي مع أي نظام عربي إن أشدت بمنجز أو أيدت موقفا سياسيا مشرفا من دون أن تعرض سوءات النظام وقوائم فساده. وأنت معارض مغرض ومخروم الوطنية إذا نقدت موقفا سياسيا، ولو كان النقد هادئا موضوعيا، ما لم تعلن الولاء للوطن مشفوعا بقائمة المنجزات.. لقد أصبح المثقف أسيرا لهذا الواقع المرير، وعليه أن يقدم بين يدي أي موقف سياسي عريضة من الاستثناءات والتبريرات و«اللاكنات».

لنفترض أن لك جار سوء يمشي بين الناس بالأذى والنميمة، فتعرض بيته لهجوم عصابة اختطفته وأرعبت عياله وسرقت أمواله وأحرقت بيته، فوقفت معه في محنته الشديدة، ماذا سيقول عنك الناس وعن عقلك لو قلت لهم وأنت تزوره في المستشفى: «أنا مع معرفتي بأذى جاري وبلطجيته في الحارة التي آذتني وآذت أهل الحي، إلا أنني لا بد أن أقف مع الجار ضد العصابة المجرمة»؟ قطعا سيقول الناس: «وهل هذا وقت نبش الماضي وفتح الجراح؟! وهل من المعقول أننا بمجرد أن رأيناك تقف وقفة إنسانية مطلوبة سنشك أنها محاولة ماكرة لتبرئة تصرفات جارك؟! أنت تخلط بين الموقفين خلطا غبيا»!.

هذا الموقف اللامنطقي يتكرر في الساحة السياسية والثقافية العربية بصورة قد لا تشبهها حالة أخرى في العالم، فأصبح الوصف الدقيق والتحليل الموضوعي باعثا على إلصاق التهمة بالانحياز لفريق ضد فريق، بل أصبح الخوف من تجيير هذا الموقف الصادق النبيل في ترجيح كفة على كفة أخرى في صراع سياسي محتدم، سببا في خيانة الحقيقة بتجاهلها، أو في تشويهها والتقليل منها، مما جعل «بعضا» من الإعلام العربي بغض النظر عن توجهاته وأطيافه ليس مصدرا معولا عليه للمعلومة ولا للتحليل، وصار هناك نزعة لدى الباحثين عن الحقيقة للأخذ من مصادر أجنبية هي أقرب إلى الحياد وأبعد عن الاستسلام لـ«فوبيا» التصنيف والاستثناءات و«اللاكنات» والديباجات الحامية من النقد اللاذع.

آن الأوان لبروز طليعة شجاعة من المثقفين والكتاب والمفكرين، بغض النظر عن وجهتها وتوجهاتها، لتعلن آراءها وقناعاتها من دون استثناءات ولا ديباجات ولا مقدمات، مهما نقدهم جمهورهم وأكثر التثريب عليهم.

[email protected]