ثورة برؤوس متعددة!

TT

من غرائب الثورة السورية أنها نجحت في بناء قوى تدافع عنها، لكنها فشلت في توحيدها أو وضع حد لتبعثرها، وأنها تمكنت من تحرير أكثر من نصف بلادها رغم افتقارها إلى قيادة موحدة تنسق نشاط مكوناتها المقاومة والسلمية، وتوفق بين حراك شعبها وقتال مقاوميها.

ومن غرائب الثورة نجاحها رغم لا مركزيتها، التي تعتبر ظاهرة استثنائية، فالثورات لم تنتصر من دون مركزية صارمة، وإلا فإنها لا تتنامى من الضعف إلى القوة، وتنتقل من السياسة إلى الحرب، ومن السلمية إلى العنف، ولا توطد بعد هذا كله أركانها تحت أنظار نظام بطاش يستخدم جيشه لسحق معارضة تنتقل من الأرياف إلى المدن وبالعكس، من المدن إلى الأرياف، ومن المناطق الأقل تطورا إلى المناطق المتطورة نسبيا، رغم تبعثرها التنظيمي وتشتتها السياسي، وضعف إمكاناتها وقلة مواردها، وما يتعرض له شعبها من اقتلاع يطاول جذوره، وما شهدته من تطور حفل بانتصارات أعقبتها انتكاسات، وبانتكاسات تلتها انتصارات.

على المستوى العسكري: هناك اليوم ثلاث جهات عسكرية «فاعلة» في الثورة، مع أن بعضها معاد للجهتين الأخريين ورافض لأهدافهما. هذه الجهات هي: الجيش الحر، والإسلاميون، والأصوليون. أما الأول، فهو ظاهرة تثير من الحيرة أكثر مما تقدم من إجابات تبعث على اليقين، لكونه إطارا افتراضيا لقوى متناقضة الرهانات مبعثرة الكيانات، لا تشكل بأي معيار جيشا أو كيانات في جيش، بينما يعد الإسلاميون العدة ليصيروا قوة مقررة وقائمة بذاتها على الأرض، ترغب في استيعاب الجميع: أفرادا وتنظيمات.

وقد انتقل الإسلاميون من التبعثر إلى التوحد خلال الأيام الماضية، مع تشكيل ما سمي «الجبهة الإسلامية»، التي أبدت استعدادها لاحتواء من هم خارجها من قوى مسلحة، بما في ذلك الجيش الحر، إن تماهى هؤلاء آيديولوجيا معها، بينما قلص تشكيل الجبهة وزن الأصولية، التي بقي أحد تنظيماتها الرئيسة (داعش) خارج الإطارين السابقين، الأمر الذي يطرح سؤالا مهما حول ما إذا كانت ستسعى خلال تعزيز وجودها خلال الفترة المقبلة إلى ضم تنظيمات أصولية أخرى إلى تحالف خاص بالأصولية.. أم ستنتهج سبيلا مختلفا إلى إثبات وجودها كقوة ثالثة يؤكد نموها السريع خلال الأشهر القليلة الماضية أن كبح جماحها لن يكون أمرا سهلا، وأنها ستقاوم احتواءها في صفوف الجبهة.. أم أنها ستواصل احتواء غيرها من التنظيمات، خاصة الجيش الحر، الذي يجد نفسه أمام مهمة عاجلة ومتشعبة هي إعادة هيكلة صفوفه وبلورة جهاز قيادي متماسك وخبير يتولى تعظيم قوته ودوره، وكبح «داعش» وتحجيمها، والمحافظة على مواقعه في أماكن انتشار الجبهة، التي تغطي مناطق واسعة من سوريا.

أما على المستوى السياسي فهناك ظاهرة لافتة برزت مؤخرا هي قيام التنظيمات الإسلامية العسكرية بإعلان برامج سياسية تنكر شرعية الائتلاف الوطني، وتعد بتقويض دوره في الحياة السياسية ومكانته في البلاد، وتعد بتحويله إلى وكيل براني للخارج ترفضه أغلبية من يقاتلون النظام، ممن لا يقرون بتمثيله لهم أو يتفقون مع التزامه الديمقراطي. هذه الظاهرة يزيدها خطورة أن الجيش الحر، القوة المسلحة التابعة نظريا للائتلاف، يواجه تحديات جدية عجز عن التعامل معها بطرق مهنية أو ناجحة، وأن التطور السياسي/ العسكري يقضم تدريجيا وحداته وكذلك مؤسسات الثورة المدنية، ويفسح المجال لسيطرة تنظيمات إسلامية وأصولية تتبنى برامج سياسية تعادي الائتلاف والجيش الحر وأهدافهما المعلنة، التي تتلخص في تحقيق أهداف الثورة السلمية: الحرية والدولة الديمقراطية/ التعددية والنظام البرلماني.

إلى وقت قريب، كان الواقع السياسي والعسكري يدور حول قطبية ثنائية طرفها الأول النظام والثاني الثورة. واليوم، وبعد بروز التنظيمات الإسلامية والأصولية، أخذنا نتجه نحو قطبية ثلاثية تتفاوت أحجام وأدوار أطرافها، تضمر تناقضات وصراعات تتجه بنا من جديد إلى قطبية ثنائية ستكون التنظيمات الإسلامية المتنوعة والمتصارعة طرفها الثاني، إلى جانب النظام، إلا إذا بقي الوضع الراهن على حاله، أو نجح الجيش الحر في بناء قوة وطنية جامعة تستقطب وتحيد تلك التنظيمات التي ترفض مطلبي الشعب السوري الرئيسين: الحرية للمواطن والديمقراطية للمجتمع والدولة.

قلت في بداية هذا النص: إن تحقيق انتصارات في ظل الانقسامات والتناقضات السائدة في ساحة المعارضة العسكرية والمدنية أمر يحتاج إلى توضيح، لأنه غير مألوف في الثورات، وأضيف الآن أنه من المستحيل تحقيق انتصار حاسم على النظام في ظل الانشطارات والصراعات الدائرة بين قوى تدعي جميعها مقاتلته، لكن بينها من الخلافات والتناقضات ما يجعل انتصار أي منها بمفرده مستحيلا، وانتصارها مجتمعة رهنا بوحدتها، التي تبدو صعبة اليوم، لأن أحدا لا يعمل بصورة جدية من أجلها!