الربيع: الجزء الثاني!

TT

لمعرفة أثر الربيع العربي على المنطقة لم أكن بحاجة لأن أقرأ صحفا ولا أشاهد حلقات متواصلة من «الصراخ» الإعلامي لفهم ذلك، ولكنني تابعت تحولات صغيرة في محيط شخصيات أعرفها، فصديق عمري كان يروي لي كيف أنه وبشكل عفوي وتلقائي تقمص فجأة شخصية الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وهو يجد نفسه محاصرا من زوجته وأولاده وسيل الشكاوى والطلبات والملاحظات والاعتراضات والآراء المخالفة تنهال عليه، فما كان منه سوى إغماض عينيه وأخذ نفس عميق جدا والقول «الآن أنا فهمتكم» وضحك وهو يروي لي القصة، وقال مضيفا: ولكني أحمد ربي أنهم لم يزودوها عليّ ويقولوا لي «ارحل». ولم يكن هذا هو المشهد الوحيد الذي لفت نظري، ولكن إحدى قريباتي حدثتني ذات يوم وهي تقول لي عن واقعة حدثت لها من ابنها الصغير، الذي كان يبلغ من العمر سبع سنوات، وهو يدخل المطبخ في المنزل، ويصيح بأعلى صوته «الشعب يريد تغيير الطعام» وطبعا كانت تعلق عن حالة الذهول التي انتابت والده وانتابتها هي الأخرى بطبيعة الحال، وهي التي تبعتها ضحكات متتالية معبرة عن الدهشة والاستغراب.

حالة أخرى استوقفتني تخص أحد أبناء صديق قديم، وهو يقوم بسرد حالات غريبة من العنف والتمرد والاقتتال في مدرسته، وقام هو نفسه بوصف هذه الحالات بأنها حركات «بلطجة»، يقوم بها مجاميع من «الشبيحة»، وزاد الطين بلة، أنه في وصفه لإدارة المدرسة الحالية قال عنها، إنها عاجزة تماما عن مواجهة ما يحصل؛ لأن هناك مجموعات من المدرسين الحاليين سلبيين جدا في تعاملهم مع الوضع وأن الطلبة والإدارة الجديدة تعدهم بأنهم من «فلول» الإدارة السابقة. إنها مصطلحات «الكبار» اقتحمت لغة «الصغار» وأصبحت بشكل واضح وصريح تشكل تكوينا لخيالهم وبالتالي أفكارهم وآرائهم.

لم يعد الربيع العربي ظاهرة سياسية نتابع تداعياتها المؤسفة من خلال شاشات التلفزيون ونشرات الأخبار وهي تنقل لنا أحزان وأتراح ومآسي المنطقة حتى بات الدعاء المصاحب للنشرات، هو دعاء اللهم آمنا في أوطاننا، وذلك مع زيادة حجم الكوارث الحاصلة، ولكن الربيع العربي انتقل إلى الأطفال والبيوت وبالتالي لم تعد حالة الربيع العربي هي حالة إخبارية معزولة وبعيدة.

كذلك من المهين للعقل أن تنقل صور مظاهرات لطلبة جامعة داخل الحرم الجامعي وهم يقذفون رجال الأمن بقذائف المولوتوف الحارقة وفي أسفل الشاشات يكون الخبر «الأمن يعترض المسيرات السلمية» وبالتالي يتم الترويج بالتدريج لفكرة الخداع والكذب والاحتيال على المشاهد بخلط الكلمات والصور وتشتيت المفاهيم وجعل المتلقي في حيرة أكثر. ولكن هناك خطرا يأتي مع كل ذلك هو الإخلال بهيبة المؤسسات كمؤسسة الحكم، ومؤسسة الدولة، والمؤسسة الدينية، ومؤسسة الأسرة عن طريق إساءة فهم معاني قيمة الحرية (وهي تبدو غائبة تماما في المجتمعات الإسلامية التي تجل فكرة العدل أكثر من فكرة الحرية، لأنها عادة تعد الحرية معادلة للفوضى، ويجب الحذر منها والشك في مقاصدها وأهدافها) وفي هذه المجتمعات تحول استخدام الحرية إلى تجرؤ وحتى إلى إساءة أدب بشخصنة العداء، والاعتداء باللفظ والتخوين والتكفير لإثبات موقف سياسي بعينه تباح لأجل ذلك كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.

هذه هي أهم نتائج الربيع العربي التي ستنعكس على الساحات الاجتماعية بشكل مقلق وسنراها في محاولات «كسب الأرضية» مع هذه المؤسسات المختلفة بين الشباب والآخرين تحت غطاء ومظلة الحرية. الحرية هي غاية عظيمة لأجل تأمين الكرامة والعدالة وهما قيمتان عظيمتان لا يستقيم أي مجتمع دون وجودهما فيه، وهاتان القيمتان على الرغم من استحالة «قياسهما» مثل مؤشر التضخم ومؤشر البطالة مثلا فإن الاستشعار بوجودهما أو غيابهما لا يمكن إنكاره لدى إجراء أي استطلاع حقيقي وصادق وأمين.

عدم إدراك المجتمعات العربية أن الربيع العربي تسلل من الشاشات الإخبارية إلى المدارس والبيوت والشوارع بأشكال وصور جادة ولافتة، هي مسألة إخفاء وإنكار لحقيقة ستقفز أمام أعيننا ذات يوم إذا لم يتم التعامل معها بجدية كافية واحترام مطلوب.