دموع بطعم العلقم

TT

شاهدت في حياتي دموعا انهمرت من عيون رجال ذوي بأس، كانت دموعا عصية، ولكن الظروف والمواقف التي مر بها أولئك الرجال لم تستطع عيونهم أن تحبس دمعها. كان آخرها دموع الرجل الطيب رئيس الجمهورية المصري المؤقت المستشار عدلي منصور، وهو يتحدث قبل ساعات من الاستفتاء الكبير إلى المصريين، يحثهم على المشاركة في الاستفتاء على الدستور. قبلها كانت دموع فؤاد السنيورة في عام 2006، وكان وقتها رئيس وزراء لبنان، وبلاده تدك بلا هوادة من عدو بالطائرات والمدافع، لأن بعضا من أبنائها اختار أن يدخل حربا غير مبالٍ بالشريك في الوطن. وقبلها دموع رجال من الكويت في مؤتمر جدة التاريخي في 13 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1990.

كل تلك الدموع التي وصفت مذاقها كالعلقم كانت تذرف على وطن جريح، وعلى ظلم بيِّن أوقعه بعض أبنائه عليه، أو ظلم جارٍ تجبر. تلك دموع غالية، ولكنها تشير إلى وقت وزمان تنشق فيه الأمة ويطلق الأشرار طاقتهم المدمرة لهدم الوطن على رؤوس أهله.

المستشار عدلي منصور منسجم مع نفسه، فها هي مصر الكبيرة تمر بمرحلة صعبة ومخاض عظيم، وتشهد ظلم بعض أبنائها لها، وهو موقف إنساني وسياسي يقف أمامه المرء متحيرا ومتحسرا.

في البداية، لا بد من التأكيد، ربما لمرة أخرى، أن مصر ومسارها وقيامها تهم كل العرب، فقيام مصر من قيام العرب، وكذلك ضعفها، فهي عمود الخيمة العربية. من هذه الزاوية، فإن ما يحدث فيها اليوم سوف يؤسس لمرحلة عربية قادمة وطويلة، إن حسنا أو سيئا، لا سمح الله.

عندما تصافح عيون القراء هذا المقال ستكون نتائج الاستفتاء على الدستور المصري قد ظهرت، الجميع من المتفائلين يرى أن النتيجة سوف تكون عالية بالموافقة على الوثيقة الدستورية التي هي بكل المقاييس وثيقة حديثة تناسب العصر، وإن لم تكن بلا مثالب. ولكن الأهم من كل ذلك، وماذا بعد؟

تتخوف النخبة المصرية والعربية المحبة لمصر من عدد من المزالق يمكن إجمالها في خمسٍ مركزية:

أولا: هل ينتج كل هذا الحراك السياسي في مصر، بعد ثلاث سنوات من الشد والجذب، وسيل دماء زكية، دولة عصرية تتبنى برنامجا إصلاحيا غير تقليدي، يفارق كل ما جرى في السابق، بمعنى ضمان الحريات العامة، وحرية القول والتنظيم، وسيادة القانون، وتبادل سلمي للسلطة، وإنزال الحاكم منزلة البشر؟ أم يلجأ البعض إلى آليات قديمة من أجل التصدي للصعاب، وهي صعاب حقيقية، بمنطق القوة المطلقة، تحت شعارات مختلفة منها الحفاظ على الوطن، وفي نفس الوقت احتقار المواطن؟

السؤال الأكبر: هل تتحمل ثقافتنا السياسية في هذا الزمن والظروف، تعددية حضارية، يقبل بها الجميع ويحترمها، تنتشلنا من الدورة المقيتة بين يد حديدية، وفوضى شاملة؟

ثانيا: هل يستطيع الوطن، أي وطن، أن يسير متوازنا في هذا العصر الذي تنفجر فيه وسائل الاتصال والتواصل، وأن يقوم بعزل فئة منه، كبرت أو صغرت، عزلا كليا، مهما كانت دوافعهم أو أفكارهم السياسية، ذلك غير ممكن لأنه في هذه الحالة سوف يستنزف الوطن من الداخل، ويعطل مصالح البشر وينخر المجتمع من الداخل، فيما يسمى اليوم في الأدبيات العالمية «الدولة الفاشلة»، ولعل بلادا مثل سوريا ولبنان، وربما العراق والسودان وليبيا، أمثلة مشاهدة لمن يريد أن يعرف النتائج السلبية العميقة التي تقعد المجتمع عن الحراك في حال العزل والعزل المضاد. ثم هل تستطيع «الجماعة» أن تفرز من داخلها جماعة عقلانية مندمجة في التيار الوطني، كما فعلت جماعات شبابية أخرى تماثلها في بلدان إسلامية، منها تركيا أو ماليزيا، حيث «تفاصلت» مع الحرس القديم واعترفت بمطالب العصر، أم تظل «الجماعة» على عنت الخرافة السياسية وأكثرها جدلا؟

ثالثا: مصر بلد كبير، وأيضا غني بمعنى من المعاني، أي إنها تملك رأسمال ماديا وبشريا ضخما، ليس أقل من بلاد مثل كوريا الجنوبية أو حتى ماليزيا، دون مبالغة، إلا أن تجربتها الأخيرة شهدت فقرا مدقعا في الإدارة الحديثة بكل ما تحمل هذه العبارة من مضامين، كما افتقدت أيضا ما يعرف اليوم بالحكومة الرشيدة التي تمتلك رؤية ثابتة للمستقبل، لا تقع في خطيئة المزايدة، ولا خطأ الرضوخ للابتزاز، خاصة التراثي، أما بلاؤها الكبير فهو البيروقراطية الثقيلة، وتلك ثقافة لا يمكن القفز عليها بين يوم وليلة، ولا أعتقد أن مصر تنقصها عقول تفهم تلك المعضلات، إلا أن حلها يحتاج إلى توافق واسع وإلى خطط متوسطة وطويلة المدى، إلا أن الركون إلى العاطفة والشعارات سوف يعيدنا إلى المربع الأول في حلقة جهنمية دائرية لا فكاك منها.

رابعا: لا بد من النظر إلى ما حول مصر اليوم، وحولها الكثير، مباشرة يحدها توتر مربك في السودان في الجنوب، وفي ليبيا في الغرب، وفي فلسطين وسوريا في الشرق، وهي محاطة إذن بحزام من التوترات تؤثر فيها وتتأثر بها، من هنا فإن مصر القادمة سوف تجد نفسها في مكان عليها أن تحدد استراتيجية للتعامل مع هذا التوتر المربك برؤية تكون هي قائدة لها لا مقودة.

خامسا: الثقل على كتف الإدارة القادمة المصرية هائل يتمثل في الموازنة بين إمكانيات الدولة وانفجار الطلب الاجتماعي على الخدمات من جهة، وعلى المعاشات من جهة أخرى. معظم الخبراء يتفقون على أن مصر حتى تقوم عليها شد الحزام، الأمر الذي سيكون له ولا شك تبعات ثقيلة. ففي حال شد الحزام ينطلق قلق اجتماعي قد يتحول بخلطه بالسياسة إلى قلق حاد، وعدم الشد يستنزف أي احتمال للقيام الصناعي والزراعي والخدمي الذي يمكن أن ينتشل البلاد على المدى المتوسط من الفقر أو الارتهان إلى الخارج.

هذه التحديات الخمسة الكبرى الجامعة هي الخلفية التي ربما فجرت دموع الرئيس المصري المؤقت المستشار عدلي منصور، لما يستشعره من ثقل تاريخي ومسؤولية وطنية، وتفجر أيضا دموع الكثير من المخلصين، فقد اختلطت دموعنا في هذه الفترة الحرجة بالكثير من الدماء العربية، على أمل أن ينبلج صبح كان مطلب الجماهير عندما خرجت عارية الصدر في أكثر من مكان على أرضنا العربية، طامحة في غد إنساني أفضل.

آخر الكلام:

عقد في الكويت مؤتمر المانحين الثاني تحت شعار «أمل لا ألم» تبرعت الكويت فيه بنصف مليار دولار.. إنها خطوة إنسانية مقدرة، ولكن الأمر الأكبر يحتاج إلى حسم في هذه المنطقة التي أصبح عدد اللاجئين المروعين من أبنائها في الخيام، أكثر من الآمنين في المنازل.