الرسالة من الاستفتاء على الدستور

TT

مرة أخرى، خيب المصريون توقعات قباطنة سفينة القيادة (الـ«بي بي سي» في تعبير آخر) في أسطول اليسار البريطاني، بشأن الاستفتاء على الدستور الجديد.

المشاركة (حتى ساعة كتابة هذا المقال قدرت بما بين 55 و60 في المائة) تقريبا تمثل ضعفي من صوتوا على الدستور الذي فصله «الإخوان» على مقاس خطتهم لهدم الدولة المصرية. خسر من راهن على نجاح «الإخوان» (سواء عبر عنف الشوارع أو إرهاب عصابات ولدت من رحم التنظيم السري الذي أسسه حسن البنا) في تعطيل التصويت.

فشل إرهاب «الإخوان» بتعاون الأمن والبوليس المصري والناخبين، ليخيبوا آمال المتربصين شرا بمصر، أو المتغابين من دبلوماسيين وساسة غربيين (بدوافع متعددة لا يتسع المجال لشرحها) تصوروا إمساكهم بأنف الشعب المصري لإجباره على ابتلاع «شربة» الإخوان.

استرجعت قراءتي قبل 40 عاما لكتيب فلاديمير إيليتش لينين (عند اليساريين في مقام سيد قطب عند الإخوان) «Left-Wing Communism: An Infantile Disorder»، ومعناه بالعربية «الشيوعية اليسارية مرض أطفال»، في رد فعل الـ«بي بي سي» والصحافة البريطانية والأميركية والفرنسية الطفولي لتخييب المصريين توقعاتهم.

تذكرت مشهدا تكرر في الإسكندرية في الخمسينات: الكمساري يمسك بصبي «يتشعبط» بخطورة في الترام، ويضايق الركاب بالتسول، أو ببيع حلوى أو مكسرات مجهولة المصدر مخالفة للوائح الصحة العامة. يتوسل الصبي باكيا للكمساري، وتتدخل هانم طيبة القلب «معلش يا حضرة الكمساري، الولد باين عليه غلبان ويتيم».. وبعد أن ينفذ الصبي بجلده وينزل من الترام في المحطة التالية، بدلا من تسليمه لقسم البوليس؛ ينتظر نفخ الكمساري زمارته لينطلق السائق بالترام، ليجري الصبي لعدة دقائق بجوار الترام متمتعا «بحرية التعبير»، ليكيل الشتائم واللعنات للكمساري ضامنا أنه لن يحاسب على بذاءته.

وبحرية تعبير الصبي الذي يعدو بجانب الترام، رد اليسار الأوروبي، والصحافة الفرنسية والبريطانية والأميركية، على تخييب الشعب المصري لتوقعاتهم، بانتهاك أهم أسس الصحافة، بالخلط بين الرأي والخبر. في كل التقارير تقريبا وصفوا الدستور بأنه «دستور العسكر»، في مخالفة صريحة للواقع (رغم ارتباك المصريين وخلطهم بين القانون الأساسي والقوانين التفعيلية والجنائية واللوائح الإدارية، فإن الدستور شكلته لجنة واسعة التمثيل والمصالح ولا علاقة للعسكر بها).. أو أنه «دستور حكومة وضعها العسكر، رغم أن الحكومة لم تكن ممثلة في لجنة الصياغة (ولا أذكر وصف الـ«بي بي سي» للدستور السابق بأنه من وضع «الإخوان» رغم انسحاب أو استبعاد آخرين من لجنة صياغته). أو يقولون إن ذلك يأتي «تمهيدا لترشيح الفريق أول السيسي نفسه للرئاسة»؛ وهي تكهنات لا يصح وضعها في تقرير إخباري، ولم يطرحها مصدر مصري أو حتى معلق له وزن يقدم ذلك.

ولأسباب خاصة بهم يصر هؤلاء على تسمية التدخل من قيادة الجيش المصري، استجابة لثورة 28 يونيو (حزيران) – 3 يوليو (تموز)، «انقلابا». وحتى إذا تلمسنا العذر لزملاء استسهلوا الكلمة، فإن المهنية تتطلب جملة إضافية (لأن تحرك الجيش المصري في 3 يوليو ليس له مثيل مسبوق) بسيطة كـ«بعد رفض أغلبية الشعب نظام الإخوان»، على سبيل المثال.

رد فعل طفولي ضحيته الأولى القارئ أو المستمع الغربي، وتضليل للرأي العام لمخالفته للحقائق على الأرض.

الحقائق لخصها مواطن بسيط (تشير لغته وتعبيراته إلى تواضع تعليمه، وانتمائه إلى شريحة منخفضة اقتصادية، لكنه عالي الوعي والإدراك الحسي بأهمية اللحظة التاريخية) في فقرة أخبار - لقناة عير مصرية - والمذيعة واقفة خارج لجنة في الجيزة فاجأت ابن بلد مصري تجاوز السبعين من العمر بوضع الميكروفون في وجهه، ووابل من الأسئلة أجاب عنها بهدوء عجوز: «طبعا أنا قلت نعم.. لا ماقريتش كل مواد الدستور.. بس ولادي وأحفادي قروها وبقالهم شهر بيناقشوها وأنا باسمعهم.. كل حاجة كويسة، وأيوة بنقول نعم.. علشان مصر بخير وأمان.. وكل حاجة هتكون كويسة وحلوة.. وأهو اللي قاطعوا (ينفلقوا) همّا أحرار.. كام نفر يعني؟.. ربنا يهديهم».

ملخص مركز مباشر لإرادة الشعب بعيدا عن حذلقة المثقفين وتحليلات الأساتذة الجهابذة.

الرجل متفائل. يقول إنه في نهاية العمر والمهم الأجيال الجديدة («أولادي وأحفادي بيناقشوها») ما دام المستقبل لهم فهو يقول «نعم»..

العجوز المصري يعي أن هناك معارضين للدستور، وللاستفتاء نفسه كمقاطعين، لكنه يعي أيضا أنهم أقلية بسيطة يراها مضللة بقوله «ربنا يهديهم».

رغم تكرار المذيعة السؤال عن مواد الدستور، وأداء الأمن، فإنه رفض الخوض في التفاصيل مانحا ثقته الكاملة لمؤسسات الأمن واثقا في أدائها وقدرتها «مصر بخير وأمان وكل حاجة هتكون كويسة».

الرجل العجوز رمز للرغبة الحقيقية للمصريين المشاركين في التصويت: الأمر ليس قبول أو رفض مضمون الدستور، بقدر ما أنه إصرار على العودة إلى الاستقرار؛ وإصرار على تأكيد الدستورية القانونية لثورة 30 يونيو 2013 في أول فرصة متاحة لتأكيد، عبر صناديق الاقتراع، ما عبرت عنه أغلبية المصريين في كل أنحاء مصر: رفض الفاشية الآيديولوجية، ورفض جماعة ولاؤها ليس لمصر.

مقابلة مراسل قناة «الغد» مع نائب برلماني سابق، هو سكرتير حزب النور (السلفي) في السويس، دفعتني لمقارنة كلماته (حول نشاط الحزب بتوجيه مؤيديه للاقتراع والتصويت بنعم «كواجب كل مواطن مصري، ومن أجل استقرار مصر، والعودة للعمل لإنقاذ الاقتصاد المصري والنهوض بمصر») بخطابات الرئيس المرفوض شعبيا، محمد مرسي، وزعامات «الإخوان» الموجهة إلى «الأهل والعشيرة»، والتي لم يذكروا فيها مصر.

في تعليقهم على إصرار الغرب (بريطانيا وأميركا) على إعادة «الإخوان» إلى حكم مصر، واستضافتهم في عواصمهم لإرهاب المصريين، كرر المصريون عبارة الرئيس بوش في الحرب على الإرهاب «إما معنا أو ضدنا». إحساس شعبي يجب أن تهتدي به الحكومة المصرية في السياسة الخارجية.

تقريبا كل مشاريع الاستثمارات الأجنبية أو المشتركة، وما تستورده مصر من تكنولوجيا، أو معدات من أميركا أو بريطانيا أو أوروبا، له بدائل بشروط أفضل من روسيا والصين.

المحروسة في حرب على الإرهاب، الرسالة إلى العواصم الأخرى بسيطة «أمعنا أنتم أم ضدنا؟»، ومذيلة بتعديل لعبارة مرشد «الإخوان» الشهيرة «طز في من ليس مع مصر».