نمط حياة متسارع يثبط الآمال

TT

يتسرب الوقت من بين أيدينا كالماء، حتى ليغدو الأمر موافقا للمثل العربي القائل «كالقابض على الماء». هذا الزمن الرقمي يمحى فيه كل شيء حتى الآمال. حتى الأفكار نقبض عليها ثم تمرق من عقولنا سريعا كأنها برق خاطف. إنه عالم رقمي خطف عقولنا وبلع آمالنا.

وأنا في الصغر ما زلت أذكر كم الأسئلة التي كنت أتلقاها ممن أعرف وممن لا أعرف عن أمنيتي عندما أكبر: «ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟».. وكانت الإجابة في ذلك الوقت حاضرة في ذهني: «أريد أن أكون طبيبا»! وعندما أمل من ترديد هذه الكلمة لكثير من السائلين أقول للآخرين: «أمنيتي أن أكون مهندسا»! وفي بعض الأحيان: «أريد أن أكون طيارا»، وهكذا هو حال أمنياتي الكبيرة لصغير السن مثلي.

كبرت ولم يتحقق شيء من أمنيات الصغر، فلا أنا اليوم بطبيب ولا بمهندس ولا بطيار، وإنما موظف يقضي جل وقته من اجتماع لآخر، يستمع لهذا وينصت للآخر، وبين فينة وأخرى أكتب بضعة سطور أنشرها هنا وهناك، لأقنع نفسي بأنني كاتب يحاول أن يكتب أول سطر في حياته.

اليوم أنا على مشارف الأربعين من العمر، التي يقال عنها إنها مرحلة اكتمال العقل، ولا يزال عقلي - غير المكتمل - يلح عليّ بالسؤال: «ماذا تريد أن تكون؟»، لكن الإجابة هذه المرة غير حاضرة كما كانت في المرة السابقة، لا أدري فعلا ماذا أريد أن أكون في باقي عمري!

تعصف بي هذه الثورة الرقمية، فلا تعطيني مجالا حتى للتفكير، حتى وأنا داخل عقدي الرابع.

هل أكون أبا صالحا في عالم بات يضج بالفوضى؟.. أم أريد أن أكون صاحب منصب يشار إليه وإلي بالبنان؟ أم أريد أن أكون صاحب علم ينتفع منه، أنكب على قراءة الكتب وأبدأ في تدوين ما تركه السابقون وغفل عنه اللاحقون؟ أم أريد أن أتفرغ للتقوى والعبادة والطاعة وملازمة البيت والمسجد لأن زهرة العمر قد ولت ولم يبق منه سوى جسم عليل نحيل قد يواتيه الأجل المحتوم في أي ساعة شاء فيها الرب أن يسترد وديعته؟ أم أكون مهاجرا مسافرا أجول العالم في ما بقي لي من عمر قضيت جله منهكا ذاتي في العمل والتشييد والبناء، وآن أوان الراحة والدعة والسكون والسفر؟ أم أكون كذا أو كذا أو كذا؟

نبهني إلى هذا التساؤل لقاء جمعني ببعض الأحبة ممن ترتاح لهم النفس وتلذ العين برؤياهم، فدار هذا التساؤل دورته بيننا: هل حققنا ما نريد؟ وماذا كنا نريد.. وماذا نريد من باقي عمرنا؟ فجاء جوابنا مجمعا على أننا لا ندري فعلا ما نريد.

إن قلت هذا الكلام لكثير من الناس، لا سيما للممتهنين لعلوم التنمية الذاتية والإدارية وخبراء البرمجة العصبية وغير العصبية، فسأتّهم بأنني رجل بلا طموح، بلا همة، بلا رؤية، وأعيش بلا هدف، فرجال اليوم ونساؤه لا بد أن يحيوا بهدف ولهدف، ويجب أن يعرفوا ذلك منذ صغرهم، ويرسموا لذلك أهدافا ورؤى واستراتيجيات وغيرها من الوسائل التي تساعد على تحديد الأهداف وإصابتها إصابة دقيقة.

قد يكون نمط الحياة الحديثة التي نحياها هو سبب رئيس في عدم مقدرتنا على تحديد ما نريد في هذه الحياة، فنحن نريد كل شيء وبسرعة. نريد أن نعرف الطب والهندسة والعلوم والفلك.. نريد أن نعرف علم المتأخرين ونلم بعلوم المتقدمين.. نريد أن نكون أغنياء وأن نحظى بالسعادة في الوقت ذاته.. نريد أن نكون علماء ونريد أن نكون أدباء.. نريد أن نكون اليوم هنا في هذا المكان وغدا في ذلك المكان، ننتقل من عمل إلى آخر بسرعة البرق، لا نمتلك الصبر والتأني لفهم الحياة والناس، فنحن خلقنا عجولين في كل شيء.

في عالم اليوم وصل الكثير منا إلى بغيته وغايته، لكنه لا يزال يجهل ما يريد. يمتلك كثيرا من مقومات السعادة والرخاء والاستقرار لكنه لا يدري ما يريد. البعض لا يزال في الطريق ذاته الذي بدأه وهو صغير يسأل نفسه السؤال نفسه: ماذا أريد؟ آخرون اقتنعوا بأنهم لا يريدون الكثير من هذه الدنيا، وأنهم لن يحووا هذا العالم كله، ولن يحصلوا إلا على جزء مما كتب لهم، ففضلوا العيش بهدوء واستقرار وسكينة، لا يزعجون العالم بصراخهم وضجيجهم، ولا يزعجهم العالم بضجيجه وصراخه.

أخذتني سطور هذا المقال وأنا أكتبه إلى عوالم مختلفة، ذهبت بي إلى الماضي وأرجعتني إلى حاضري الذي أعيشه اليوم. حاولت من خلالها التعرف على ذاتي وإعادة تعريف ماذا أريد في هذه الحياة، حاولت فهم نفسي والعالم من حولي، حاولت تأمل الإنسان وماذا يريد من هذا الكون، لكنني لم أجد بعد جوابا شافيا لـ«ماذا أريد وكيف أصل إلى ما أريد؟».

إنه بالفعل عصر رقمي لا يهتم بالآمال ولا بالأحلام، بل يدكها دكا.

* رئيس تحرير صحيفة «الأوبزيرفر» العمانية