الحزب العنكبوتي تحت المجهر الإلكتروني

TT

صالة سينما أم قاعة محكمة؟! إنها التقنية الإلكترونية التي حولت قاعة محكمة الحريري الدولية، إلى صالة سينما. الفرق بين هذه الصالة وسائر صالات السينما كون الفيلم الوثائقي المعروض يحكي قصة جريمة قتل حقيقية، وليست تمثيلا.

وأمام مُجَسَّمٍ لمسرح الجريمة، تعاقب المدعي العام ومعاونوه على عرض الفيلم، بالصوت. والصورة. والفيديو، بحرفة مهنية التزمت بتقديم كل تفاصيل الاتهام الضرورية، للوصول إلى قناعة القضاة.

رواية المدعي العام ومعاونيه أثارت ذهول الحضور في القاعة، إزاء ما يعرض عليهم، من أدلة وصور إلكترونية تتجمع. وتتضافر، لتشكل هذه المطاردة الجهنمية البطيئة التي قامت بها سيارة الـ«فان» البيضاء المنطلقة من ضاحية بيروت الجنوبية (معقل حزب الله)، لصيد موكب رفيق الحريري المنطلق من مجلس النواب في قلب بيروت، إلى حي قريطم حيث يسكن الرجل.

المشهد الإلكتروني المتحرك درامي، لا يمكن نفيه. وعدم تصديقه: بكاء. نحيب. إغماء. تأوهات. ذكريات مؤلمة للحاضرين الذين أصيبوا في مسرح الجريمة. ولأهل المتوفين (22 قتيلا بالإضافة إلى الحريري).

يبلغ انفجار الحضور العاطفي الذروة، لحظة اللقاء بين الـ«فان» وسيارة الحريري. تغيم الصورة على الشاشة. ثم تتلاحق الصور الإلكترونية للجثث المحترقة والمشوهة، بما فيها صورة الشهيد الحريري الذي أطاح به الانفجار، من مقعد السائق إلى الخارج.

لماذا لم تشوش أجهزة التشويش الإلكترونية الدقيقة التي تحملها «مرسيدس» الحريري المصفحة التي كان ترتيبها السيارة الثالثة، في موكب من ست سيارات تضم حراسا. ومرافقين. وأجهزة تشويش؟!

تبين من التحقيق أن جهاز التشويش في سيارة الحريري كان معطلا، فيما لم تنفع أجهزة التشويش الأخرى في السيارات المرافقة، لأن تفجير سيارة الـ«فان» تم يدويا، وليس بـ«الريموت كنترول» الذي يمكن التشويش عليه. دفع الانتحاري سائق الـ«فان» حياته ثمنا. لم يكن بإمكانه مغادرة الـ«فان» التي تبين أنها محملة بثلاثة أطنان من المواد شديدة الانفجار.

أيضا، لماذا لم يكن بالإمكان ضبط سيارة الـ«فان»، بعد خروجها من معقل حزب الله؟ لأن أجهزة الرصد اعتبرتها سيارة عادية تمخر زحام السيارات في الشارع. ولم تعرف أنها مكلفة باعتراض سيارة الحريري. أو أنها محملة بثلاثة أطنان من المتفجرات.

السؤال الآن: من قدم المعلومات المذهلة عن القتلة الخمسة المتهمين مباشرة؟ وعن المراقبة. وخطة الاغتيال التي استغرق تنفيذها ثلاثة شهور؟ على الأغلب، كان جهاز «قوى الأمن الداخلي» هو الذي قدم 95 بالمائة من المعلومات والمستمسكات الإلكترونية. وكلها تقدر بـ15 ألف معلومة.

لقد دفع هذا الجهاز ثمنا غاليا. فقد قتل النقيب وسام عيد الذي تولى جمع المعلومات، بعد مقتل الحريري. ثم قتل اللواء وسام الحسن رئيس شعبة المعلومات فيه، بتفجير سيارة مفخخة بستين كيلوغراما من المتفجرات. ويبدو أن هذا الجهاز كان مزودا، بمعدات رصد إلكترونية غربية عالية المستوى توازي ما يملك «حزب الله» من أجهزة ومعدات مماثلة.

لكي أكون أمينا مع الرواية الصحافية، أذكِّر باستئثار الطوائف الرئيسية بأجهزة أمن الدولة: «جهاز قوى الأمن الداخلي» يسيطر عليه ضباط أمن سنة، برئاسة اللواء أشرف ريفي الذي أحيل إلى التقاعد، بعد مقتل وسام الحسن. ثم «جهاز الأمن العام» الذي يسيطر عليه ضباط أمن شيعة، برئاسة اللواء عباس إبراهيم. ثم هناك جهاز أمن مدني وآخر عسكري، يسيطر عليهما ضباط أمن موارنة ومسيحيون.

الجهاز «السني» هو الأوسع نشاطا. فهو الذي كشف شبكات التجسس الإسرائيلية العاملة في «حزب الله»، وفي القوات السورية في لبنان. وفي بعض الأحزاب والتيارات، كتيار ميشال عون. بل هذا الجهاز الأمني هو الذي كشف فضيحة تزويد المخابرات السورية (علي مملوك) الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة، بمتفجرات حملها في سيارته من دمشق إلى بيروت. وكان عليه تسليمها إلى عملاء المخابرات السورية، لاستخدامها في تفجير موكب بطريرك الموارنة بشارة الراعي، خلال زيارة كان يزمع القيام بها إلى شمال لبنان (عكار) الذي يعج بخلايا وتنظيمات سنية «جهادية» و«قاعدية».

حرفية المدعي العام ومعاونيه في الاستعانة بالمعلومات الإلكترونية. وتحليلها. وتنسيقها، بما في ذلك شبكة الهواتف الملونة (50 هاتفا) التي استخدمها المتهمون القتلة الخمسة وغيرهم، هذه الحرفية تشير إلى مدى تقدم تقنية التحقيق الإلكتروني، في كشف الجرائم، وإدانة القتلة بأصواتهم. واتصالاتهم. ومكالماتهم المتبادلة.

ليس هناك ضمان مائة بالمائة لحياة الزعماء والمسؤولين، بعدما تحولت تقنية القتل من الاغتيال الفردي، بالبندقية. والمسدس. والسلاح الأبيض، إلى القتل الجماعي بالمتفجرات المفخخة. وظل «حزب الله» ينكر الجريمة والمسؤولية. وأخفى القتلة المتهمين. واستمر تسع سنوات متوالية، في اتهام المحكمة الدولية بأنها إسرائيلية. وأميركية، من دون أن يقدم دليلا. أو مستمسكا واحدا.

وبدا المتهمون، من خلال حركتهم. واتصالاتهم، قتلة محترفين، لا تردعهم أية أخلاقية دينية وإنسانية. كان القتل متعمدا، بحيث يشمل أكبر عدد ممكن من الأبرياء. والقصد بث الترويع. وإلقاء الرعب والخوف في النفوس. وبعد الاستعانة باعترافات الفلسطيني أحمد أبو عدس، للتضليل وإبعاد الشبهة، تمت تصفيته عندما انتفت الحاجة إليه. أما الحزب ذاته. حزب الله. والمقاومة. والممانعة، فقد بدا حزبا عنكبوتيا يتحرك في الظلام، ليتصيد فرائسه، بانتقائية غريزية شرهة ومحترفة.

لكن لماذا كان رفيق الحريري هدفا دائما للتصفية والاغتيال؟ لأنه صاحب مشروع سياسي/ إنمائي، يتطلب لتنفيذه بقاء صاحبه أطول مدة ممكنة في الحكم. هذا الأمر غير مقبول لدى حكم طائفي علوي في سورية مهيمن على لبنان. ومرتبط بحلف إقليمي يضع المشرق العربي (من العراق إلى لبنان) تحت الهيمنة الإيرانية، في إطار الصراع السني/ الشيعي في المنطقة.

لذلك، قتل في لبنان زعماء وساسة سنة وغير سنة رفضوا. وقاوموا ربط بلدهم بالحلف الإيراني/ العلوي: كمال جنبلاط. الشيخ حسن خالد مفتي السنة. الشيخ صبحي الصالح الجامعي الأكاديمي. الرئيسان رينيه معوض وبشير الجميل. إيلي حبيقة الحليف السابق لسورية. وفي عصر بشار، تمت تصفية صف طويل. عريض من الساسة والإعلاميين اللبنانيين المعارضين، بدءا من مروان حماده (2004) الذي نجا بأعجوبة، إلى محمد شطح المستشار السياسي لسعد الحريري (2013). وكان سعد خلف والده الراحل على رأس التيار السني الأعرض في البلد، متحالفا مع أحزاب وتيارات وشخصيات سياسية مارونية وغير مارونية.

هل يمكن استعادة الحكم المدني/ الديمقراطي في الشرق الأوسط والمشرق العربي؟ هل يمكن قيام الدولة المسالمة لجيرانها وأشقائها؟ الدولة التي لا تقتل. لا تغتال. لا ترسل القتلة عبر الحدود. ولا تقيم معسكرات التدريب على العنف والإرهاب، لأمثال أحمد جبريل. صبري البنا. كارلوس. عبد الله أوجلان. محمد علي أقجه (الذي حاول قتل البابا جون بول الثاني).

قد تدهش، عزيزي القارئ، إذا قلت إن عقد مؤتمر دولي/ إقليمي، لاستعادة الدولة الملتزمة بالقانون الدولي، أسهل وأفضل بكثير، من عقد مؤتمر جنيف، لإقامة حكم ائتلافي بين دولة مخابراتية/ إرهابية (نظام بشار)، ومعارضة تورطت أطراف ميدانية فيها، بالقتل. والإرهاب. ومعاداة الحريات السياسية والشخصية.

الشرط الأول تصفية نظام بشار، لاستحالة إصلاحه وضمان سلميته. ولعل أوروبا التي تملك نظما ومؤسسات قضائية، لمراقبة العلاقات السلمية بين دولها، وإلزامها بتطبيق مبادئ حقوق الإنسان، تستطيع أن تشارك في إقامة نُظُمٍ. وأجهزة. ومؤسسات مماثلة في الشرق الأوسط، تحت رعاية الأمم المتحدة، بحيث تجمع دولا تتخلى عن ثقافة الممانعة، بحجة مقاومة إسرائيل. كإيران. وتركيا. والعراق. وسورية. ولبنان. وفلسطين. وربما أخرى.

لكي يكون هذا التجمع الإقليمي منطقيا وناجحا، لا بد من إلزام إسرائيل بالانسحاب. ووقف الاستيطان، لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وذات سيادة. وقابلة للحياة في الضفة وغزة، وإلا عادت المنطقة إلى ممارسة العنف والإرهاب، بحجة الأمن. أو بحجة التحرير وإنهاء الاحتلال.