الحرب على التجار!

TT

في حقبة الخمسينات والستينات الميلادية من القرن الماضي حرصت الأنظمة العسكرية العربية التي غطت نفسها بلحاف الاشتراكية أن تبرر حملات التنكيل برأس المال الوطني لتبرير حملة «التأميم» الإجرامية، والتي كانت بمثابة قرصنة مشروعة أحيطت بالطبل والزمر والأغاني الوطنية وتبرير كتاب السلاطين لهذه الجريمة.

وهذه الجريمة هي، أولا وأخيرا، سرقة رسمية! وكثفت هذه السلطات حملتها الذهنية على عقول شعوبها بالمسلسلات والأفلام والمسرحيات والبرامج والكتب والروايات، التي تظهر دوما رجل الأعمال والتاجر بأنه شخصية «حقيرة»، لا يتوانى على فعل «أي شيء»، وصولي ورخيص، منغمس في الليالي الحمراء والمحرمات وناشر للفساد والمفاسد بشكل هائل، وترسخت هذه الصورة حتى بات ظهور أي رجل أعمال في مشهد سينمائي أو تلفزيوني إلا ويكون وسط الموبقات والمحرمات حتى يفقد أي تعاطف ممكن مع من يشاهده أو يقرأ عنه. وأصبح رجل الأعمال، بالتالي، «كيس الملاكمة» المريح والهين المتوفر لتفريغ الغضب الشعبي عليه، فهو مناسب جدا ليكون «شماعة» تعلق عليها كافة الإخفاقات والخيبات وتبعد عن العين والسمع والفكر الاهتمام بشؤون أخرى. وباتت تحمل كلمة «تاجر» كل شيء قبيح، فالاتهام أن فلانا «يتاجر» بالضمائر وأن المنتج إذا ما كان سيئا ورديئا فيوصف بأنه منتج «تجاري». واستمر هذا التدهور اللغوي في استخدام المصطلح حتى تحول مع الوقت إلى ما يشبه السباب والاتهام متناسين ومتجاهلين التعظيم الإلهي في القرآن الكريم (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)، وأيضا الحديث النبوي الشريف الذي أوضح فيه عليه الصلاة والسلام (تسعة أعشار الرزق في التجارة) وكم من الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم كانوا تجارا من أمثال أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم.

التجار يتعرضون مجددا لحملة تشكيك في ولائهم ووطنيتهم ويتعرضون لحملة مقننة للتشكيك في نواياهم وفي أهدافهم ويتهمون بأنهم «مقصرون» وليسوا «وطنيين» بالقدر الكافي، وطبعا مع عدم إغفال التهمة الأزلية الدائمة والمستمرة «بالجشع» و«الاستغلال».

يغفل في كل هذا الطرح السلبي أنه طرح موتور وقصير النظر، فالتجار هم طرف أصيل من نسيج أي وطن فهم يستثمرون أموالهم ويوظفون البشر ويفتحون أبواب العلاقات مع العالم ويمدون جسور التواصل معه بشكل محترم ومشرف، وبكل هذه المؤشرات وكل هذه المعطيات وغيرها، يكونون جزءا حيويا من الصورة الذهنية المميزة التي ترغب أي دولة في نقلها للعالم لإبراز وجهها الحضاري والإنساني المشرف. ولكن أن يتم التعميم العام والمطلق بأن «التجار» شر، وأن «التجار» خطر يجب الحرص والحذر منهم ووضع المحاذير والعراقيل أمامهم، فهذا مظلمة عظيمة ويجب العمل على تعديلها وإصلاح الوضع. لأن «التاجر» هو منتج ومفيد ومؤد للزكاة ودافع للضريبة ومتصدق في أوجه الخير بلا حدود. وكم من القصص غير المعروفة التي لا يتم التغني بها في قنوات وسائل الإعلام المختلفة تظهر الأدوار العظيمة لرجال الأعمال في أوجه الصرف والعمل الخيري الهائل.

هذه الحرب الممنهجة ضد رجال الأعمال والتجار هي مسألة غير صحية وتولد مناخا منفرا لرأس المال. وإذا أحجم رأس المال الوطني على الاستثمار وبأريحية في بلاده، فمن الطبيعي أن يحذر رأس المال الأجنبي من الإقدام على «مغامرة» عمل ذلك براحة بال وطمأنينة كافية. هناك جسور من حسن الظن والثقة مطلوب إعادة تأسيسها وبنائها بقوة والتعامل معهم على أنهم مكون رئيسي من خطط نماء أي بلاد، وعدم اعتبار أنهم جزء مشكوك فيه ومطلوب الحذر منه باستمرار.

المراقب والمطلع على ما يتم تداوله في وسائل الإعلام بحق التجار لا بد أن يصاب بالدهشة والاشمئزاز من هذه الحملة الممنهجة وهي مسألة سيدفع الجميع ثمنها إذا ما استمرت لأن خسارة شرائح مهمة كالتجار ورجال الأعمال مسألة معيبة ولا تستحق الافتخار بتحقيقها.