استقلال أسكوتلندا.. وعناد إسرائيل

TT

قبل 734 عاما، على وجه التحديد سنة 1280 ميلادية، غزا إدوارد، ملك إنجلترا، أراضي أسكوتلندا وفرض على أهلها نوعا من الحكم كان له طابع استبدادي، لم يرحم حتى أعراض النساء، إذ أصدر مرسوما يبيح للحاكم العسكري الإنجليزي اغتصاب العروس الأسكوتلندية ليلة زفافها. ويليام والاس، الشاب الأسكوتلندي الثائر، الذي شهد بعض مآسي ذلك الاستبداد وهو لم يزل صبيا، قاد فيما بعد ثورة شعبه ضد حكم إدوارد وجنوده، وعندما وقف أمام حبل المشنقة رفض توقيع طلب استرحام، وإذ قيل له: فقط قل «الرحمة»، أجاب بصرخة: «الحرية».

ذلك ماض بعيد. نعم، بقيت أسكوتلندا جزءا أساسيا وفاعلا ضمن المملكة المتحدة، لكن رماد التطلع إلى استقلالها بقي مشتعلا تحت مسام ملايين الناس من أهلها، رغم أن ذلك لم يحل دون إسهامهم في بناء إمبراطورية لم تكن الشمس، ذات زمن مضى أيضا، تغيب عنها.

بعد 734 عاما من ذلك الماضي الموغل في عمق الزمن، يجيب الأسكوتلنديون يوم الخميس 18 سبتمبر (أيلول) هذا العام في استفتاء عام عن سؤال يتعلق بالاستقلال وضع على النحو التالي:

Should Scotland be an independent country? Yes - No

أكثر من أربعة ملايين ناخب مسجلين في أسكوتلندا يحق لهم الاقتراع بـ«نعم» أو «لا». بين الأسكوتلنديين معسكر مع الاستقلال، وآخر ضده، يسعى كل منهما لجمع أكبر عدد ممكن من الأصوات لصالحه. إذا أتت نتيجة الاستفتاء لغير صالح التيار الاستقلالي، كما تمنى ذلك علنا، وعبر عنه صراحة، رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون، هل سيؤدي ذلك إلى طي الصفحة رسميا، ومن ثم إعلان موت النزعة الاستقلالية نهائيا؟

أعتقد أن الإجابة يمكن أن تكون «نعم» و«لا» معا. فمن جهة، يمكن أن تطوى الصفحة رسميا، ويسجى ملف استقلال أسكوتلندا على أحد الأرفف ليعلوه الغبار ردحا من السنين. إنما الأرجح أن تلك النزعة الاستقلالية لن تموت نهائيا طالما بقي بين الأسكوتلنديين من ينفخون في أوارها، ولا يضيعون فرصة للتذكير بها، حتى على مدرجات كرة القدم. إن كانت ثمة عبرة في لا نهائية (SAGA) الحكاية الأسكوتلندية، فخلاصتها أن تطلع شعب ما، أو جزء منه، للاستقلال يصعب إنكاره، حتى في حال أنه غير خاضع لأي احتلال، كما في حالة الأسكوتلنديين منذ أصبحوا جزءا من المملكة المتحدة، فهل يصعب فهم أن من المستحيل إخماد لهب شوق شعب بأكمله لحريته واستقلال دولته وهو المحروم منهما طوال قرون مضت؟ عندما يتعلق الأمر بحق الفلسطينيين في جزء من أرضهم يحمل اسم دولتهم المستقلة، واضح أن بين الإسرائيليين من لا يزال يستعصي عليه مثل ذلك الفهم، ليس لقلة ذكاء عندهم، وإنما لإصرار على عناد يحاول استغباء الآخرين. في زمن سبق، وبكثير من صلف الغرور، تساءلت غولدا مائير: «من هم الفلسطينيون، أين هم، إنهم غير موجودين». آنذاك صب كثيرون في إعلام العرب على رأس رئيسة الحكومة المنتمية لجيل مؤسسي استقلال دولة إسرائيل جام الغضب، بينما لم تكن تستحق سوى السخرية من سخف استغبائها لغيرها وكذبها على نفسها. لكن ذلك زمن يفترض أنه مضى وحل محله عالم «غوغل»، و«فيس بوك»، و«تويتر»، أشهر كواكب فضاء القرية الكونية، فكيف يعقل أن يكون بين الإسرائيليين من لا يزال يعتقد أن بإمكانه «بيع الماء في حارة السقايين»؟

خرجت بهذا الانطباع في ضوء بعض الردود على مقالتي المنشورة الأسبوع الماضي. لقد كتبت أدعو القيادة الفلسطينية إلى الاعتراف بـ«يهودية دولة إسرائيل»، باعتباره تحديا يرمي به نتنياهو على الطاولة لعرقلة مساعي جون كيري، والحيلولة دون تحقيق إدارة أوباما لأي تسوية. بيد أن الفهم الإسرائيلي الذي يفترض الغباء في الآخرين، قفز فورا إلى الزعم بأن الفلسطينيين معادون للسلام لأنهم رافضون لوجود إسرائيل، بصرف النظر عن اعترافهم بـ«يهودية» الدولة، وبينهم من مضى في الزعم أبعد، معتبرا أن أصل المشكلة يكمن في الإسلام كدين.

إن لم يكن ذلك نوعا من الاستغباء، فهو بالتأكيد افتراء يتناقض مع حقائق بديهية. ليس بوسع أي عاقل إنكار أن غالبية الفلسطينيين أعلنت أنها مع التوصل للسلام منذ ذهب الدكتور حيدر عبد الشافي على رأس وفد فلسطيني للمشاركة بمؤتمر مدريد في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1991. في المقابل، الطرف الإسرائيلي هو الذي ناور وتحايل منذ ذلك الوقت، مستخدما أي سبب، مهما كان تافها، لتبرير المراوغة (على سبيل المثال، هدد إسحاق شامير بالانسحاب من افتتاح مؤتمر مدريد احتجاجا على ارتداء صائب عريقات الكوفية الفلسطينية) ولا يزال يفعل ذلك حتى اليوم، ولا أحد يعلم إلى متى، ويعطي الذرائع ليس فقط لمناوراته، وإنما للمتطرفين على الجانبين كي يواصلوا زرع الألغام لقتل أي احتمال لأي سلام.

مخاطرا بإرثه كزعيم وطني، وتحت عنوان «سلام الشجعان» أقدم ياسر عرفات على الاعتراف بدولة إسرائيل ضمن حدود 5 يونيو (حزيران) 1967، ومن ثم التفاوض معها على أساس قرار دولي (242) يقر عودتها إلى تلك الحدود، ولكن حكام إسرائيل – منذ ذلك الوقت - لم يقدروا للرجل تلك المخاطرة، وهم من أضاعوا فرصة سلام حقيقية، لسبب بسيط هو أنهم الطرف القوي على الأرض، ولو أنهم أدركوا حجم الفرصة التي بين أيديهم لما كانت الذكرى الحادية والعشرون لتوقيع اتفاق أوسلو (13 سبتمبر 1993) تحل هذا العام، بينما جون كيري يراوح - على الأرجح - في مكانه، بينما شعب أسكوتلندا، الآمن في بلده، الحر في مجريات حياته، المتحد في مملكة تجمعه مع شعب إنجلترا وقوم ويلز، يقول كلمته: مع الاستقلال.. أو ضده.

متى يدرك المتطرفون على جانبي صراع يريده كلاهما بلا نهاية، أنه لا الفلسطينيون سينقرضون، ولا الإسرائيليون سيرحلون؟