أم كلثوم ونانسي في «الجنادرية»

TT

كثيرة هي اللقاءات والندوات الهامة التي تابعتها في مهرجان «الجنادرية» في دورته رقم 29. ولكن يبقى دائما في الذاكرة الكثير من الأفكار، كانت مخاطر الأمن القومي والهوية الثقافية العربية والإسلامية حاضرة بقوة في كل الأنشطة، وتعددت وجهات النظر بل وتناقضت أحيانا، وظل التنوع الفكري هو الذي يشكل فسيفساء الجنادرية طوال عهوده، شاهدت كل الاتجاهات التي تصل في حدها الأقصى إلى خط التناحر الفكري، والكل لديه مساحته ويعرف أن حدود حريته تنتهي عند حق الآخر في التعبير والاختلاف، فلا أحد يستطيع أن يُغفل ما نعيشه من تهديدات تتربص بنا وتقف على الباب تنذرنا باغتيال الروح وليس فقط نزع الهوية، نتابع مثلا ظاهرة «الإسلاموفوبيا» التي صبغت الشخصية الإسلامية، بل والعربية بكل ما يخاصم المدنية والسلام ويصالح الدموية والوحشية.

تلك كانت البعض العناوين التي تناولتها المنصات الرئيسة، ولكنها لا تشغل كل مساحة الصورة، في المهرجان أمسيات يومية تبدأ من الحادية عشرة مساء وتستمر ساعتين أو أكثر، واحدة منها تناولت الصحافة الرقمية والورقية، وأغلب المشاركين كانوا يراهنون على أن المطبوعة سوف تُصبح مع الأيام مجرد ذكرى مكانها المتحف، استندوا إلى زيادة مساحة الجرائد الإلكترونية في السنوات الأخيرة، وإلى تغيير واضح في سلوك نمط القراء، وعزوف الكثيرين عن التعاطي مع المطبوعات، ناهيك بالطبع عن المخاطر البيئية التي ترى في تلك الأوراق سموما تهدد ثقب الأوزون بمزيد من الاختراق.

في الحقيقة لم أشاطر المجتمعين الرأي، يقيني أنه ستظل للكلمة المطبوعة سحرها وجاذبيتها وخصوصيتها على شرط واحد أن يحدث نوع من التلاقح الفكري بين الرقمي والمطبوع، وكانت أيضا هذه القضية أحد محاور النقاش مع الإعلامية المتميزة ميسون أبو بكر في برنامجها «الثقافة اليوم» عبر القناة الثقافية بالتلفزيون السعودي، وشاركتني في الحوار الشاعرة السودانية الشابة منى حسن، وأشرت في اللقاء إلى تأثير الصحافة الرقمية على الورقية في أسلوب التناول واستخدام المفردات، وقلت يجب أن نعترف بأن للزمن إيقاعه ونجومه وهذا زمن نانسي عجرم وليس زمن أم كلثوم.

لو تخيلنا مثلا أن أم كلثوم ظهرت مجددا في الألفية الثالثة بنفس الملامح والأسلوب والصوت فأنا أؤكد لكم أنها لن تحقق النجاح وسوف تعدها الذائقة الشعبية خارج نطاق الزمن، نعم أم كلثوم لا تزال حاضرة في الآذان والوجدان لكننا من المستحيل أن نستنسخها مرة أخرى. إذا لم تتطور الصحف الورقية ستموت لا محالة، وهذا لا يعني أن تتحول إلى رقمية ولكن بتغيير أسلوب مخاطبة الجمهور لتدرك الشفرة الجديدة وتضبط ترددها على موجة القارئ، عندما تُحدق بنا المخاطر تنشط دائما أسلحة الدفاع عن البقاء، عندما تتهدد الحياة نبحث عن وسيلة النجاة، وضربت مثلا بالتهديدات التي واجهت السينما بعد ظهور التلفزيون، ورأى البعض أن الفيلم طالما وجد طريقه للشاشة الصغيرة فلن يصبح هناك جدوى لكي يذهب الناس إلى السينما، على الفور وجدنا تطورا تقنيا على الشاشة وفي دور العرض بالتلوين واستخدام الكومبيوتر في التنفيذ والصوت الدولبي ورؤية مجسمة للصورة، تفاصيل كثيرة لا تستطيع أن تلاحقها بنفس الكفاءة شاشة التلفزيون، بالإضافة إلى أن سيكولوجية الذهاب إلى السينما ومشاهدة الفيلم في قاعة مظلمة ومع غرباء والطقوس التي تسبق هذه الرحلة كلها عوامل ليس لها بديل منزلي، الصحافة المطبوعة لها أيضا طقوسها الخاصة، وستعيش جنبا إلى جنب مع الصحافة الرقمية، سيموت فقط من لا يحافظ على تواصله مع إيقاع الزمن سواء أكان مقروءا أم رقميا!