مقصلة على رقاب الموتى

TT

يبدو قرار «المعهد العالي الوطني الموسيقي» - الذي كشف عنه مؤخرا - بطرد مارسيل خليفة من جنته، منذ ثلاثين عاما، بسبب مواقفه السياسية، مضحكا وسخيفا. لم يتحدث خليفة عن هذا الأمر طوال ثلاثة عقود، تكتم على الجرح، حمل أمتعته وعوده ونوتاته وقصائده وأمنياته ورحل يومها إلى مستقبل غامض، كما شرح.

رحلة أخذته إلى آفاق موسيقية واسعة، برحابة إصراره على حريته وجنوحه، إلى بقاع لم يكن، ربما، ليطأها لولا أنه نُبذ من أهله. منذ أيام، حين قرر المعهد أن يعيد الاعتراف بابنه ويرجعه إلى كنفه مكرما، بدا «الكونسرفتوار» هو الذي يتظلل بخيمة مارسيل خليفة الموسيقية، هذه المرة، وليس العكس.

انتهز مارسيل المناسبة، ليتحدث عن هذا الطرد السياسي المشين. ما كان الرجل - وقد صار عالميا - بحاجة لأن يقول كلمات كثيرة، كي نفهم دلالة الحادثة التي لا بد تستر غابة الحسابات السياسية الغبية، التي تحكم الحياة اللبنانية، بموسيقاها ورسمها وأدبها، وصولا إلى كسرة الخبز في فم الجوعى.

محاكمة المبدعين على آرائهم السياسية وإعطائها الأولوية، بدل الالتفات إلى نبوغهم، أو قراءة نتاجاتهم، كارثة يتعاظم شأنها، مع استفحال التطرف والتسييس ونبذ كل مختلف.

وبدل التعلم من دروس الماضي واستدراك المخاطر، باتت اللعنة تصب على الموتى أيضا. لسنا ضد التذكير بآراء الراحلين وسيرهم، ومناقشتها أو معارضتها، لا بل هذا حق لهم علينا، لكن الأمر يصل إلى حد الشتم وتبخيس الأعمال بحجة المواقف. فما إن فارقنا الشاعر جوزف حرب حتى تصدى له من يريد نعته بـ«الشبيح» و«المجرم» وكأنه كان ينازلهم في ساحة الوغى، يحمل مدفعية، ويرمي مناوئيه بالقنابل، بينما الرجل ليس أكثر من شاعر، له رأيه الذي نوافقه أو نخالفه، وقضى سنين الثورات شبه وحيد، وقد تقدمت به السن، مفضلا العزلة على مخالطة الناس. ويوم كان جوزف حرب يذهب إلى سوريا كان ثلاثة أرباع اللبنانيين يزحفون تزلفا إلى دمشق. ولم يسلم أنسي الحاج من ألسن الحاقدين، الذين أخذوا يراجعون مواقفه المكتوبة عن سوريا، وكأنما هي أدعى للاهتمام من دواوينه. على هذا النحو يصبح مقياس الإبداع في العالم العربي كله متوقفا، عند البعض، على رأي الأديب من النظام السوري، الذي هو زائل حتما كما اختفت من قبله أنظمة عربية عمرت طويلا، بينما البقاء للقصيدة والرواية واللوحة. إن أهمية إنتاج كاتب لا تنبع من رأيه ببشار الأسد أو حزب البعث، أو مدى دفاعه عن المعارضة السورية، التي أصبحت هي نفسها لا تعرف كيف تدافع عن نفسها. فحسابات السياسة ضيقة، قصيرة الأجل، محدودة في الزمان، بينما الأدب له زوايا للرؤيا مفتوحة على الاحتمالات.

مما لا يبشر بأي خير قريب، أن لا تكون المعارضات قد تعلمت أي شيء من أخطاء الأنظمة القمعية الجائرة. فما هي مشكلتنا مع الديكتاتورية، إذن، إن لم يكن رفضها الاعتراف بالمختلف، وتكميمها الأفواه، واضطهاد أصحاب الرأي المسالمين وزجهم بالسجون؟ ما مدعاة كل هذه الثورات، وأنهار الدماء التي تسيل إن كان على الشعراء أن يفكروا كما يطلب منهم، أو يتهموا بالعمالة والخيانة؟

الذي قتل فرج فودة، كان يعتبر نفسه على حق، ومن حاول اغتيال نجيب محفوظ لا بد تصور أنه يخدم الأمة، تماما كمن يتمنون موت الشاعر أدونيس على الـ«فيسبوك» هذه الأيام، وكأنهم بالتخلص منه سيحققون نصرا مبينا. أين ذهب الذين رموا طه حسين بالكفر، ومن يعرف أسماءهم، فيما كتابه «الأيام» وغيره من روائعه ستبقى ركنا من المكتبة العربية.

الشاعر سعيد عقل - أطال الله عمره - أراد استبدال الحرف العربي بغيره، وروج للعامية بدل الفصحى، وله نظريات أفلاطونية عن لبنان وعظمته أقرب إلى الأحلام، ومواقفه من القضية الفلسطينية لا ترضي غالبية العرب. وهو حين سئل، ذات يوم، عن محمود درويش، قال بأنه لا يعرفه ولم يسمع به. هكذا أراد تجاهل واحد من أهم شعراء العرب لأنه فلسطيني. ومع ذلك، لا يمكن أن يحقر إنجاز شاعر كبير من وزن سعيد عقل، ولا أن يحط من قدر موهبته الشعرية وقيمته الأدبية، لأن آراءه في الحياة تزعج خاطرنا.

ثمة من اعتبر أن زياد الرحباني ناضب فنيا، لمجرد أنه يؤيد المقاومة، ومن رأى أن أغاني فيروز لم تعد جديرة بالاستماع للسبب عينه. كلام يبدو هراء، ولا يصمد أمام امتحان التاريخ.

حديثنا ليس عن أنصاف مبدعين، يتزلفون ويتسلقون، من أجل منفعة صغيرة هنا ومصلحة أصغر هناك، يبيعون كلماتهم لمن يشتري، وإنما عن أناس لهم إبداع يحترم، ورأي يعبرون عنه بقناعة. وهم في غالبيتهم، بدلوا قناعاتهم ذات مرة، لأن الفكر ليس خطا مستقيما جامدا. ولا بد أنهم يؤمنون بما قاله برتراند راسل: «لن أموت أبدا من أجل معتقداتي لأنني قد أكون مخطئا».

أما القول بأن الكلمة تقتل وهي أخطر من السيف، فهذا ما يردده الضعفاء وقليلو الحيلة في مواجهة من يعارضونهم. ونحن نقبل أن تلقي كل الأطراف المسلحة في المنطقة عدتها الحربية، من ليبيا إلى اليمن، ولنتقاتل سلميا بالكلمات، بدل أن ننحر بعضنا بعضا بسببها. كان المهاتما غاندي، هذا الثائر السمح المسالم يقول: «الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء، وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألد الأعداء».