روسيا وأميركا اليوم.. وقبل 11 سنة

TT

تعلّمنا من الغرب عبارة «رقصة التانغو تحتاج لراقصَيْن». وحسب علمي يجيد الرئيس باراك أوباما رقص التانغو.. التي تقوم على تناسق الخطى والتفاهم التلقائي مع الشريك، ولكن كما يظهر في أوكرانيا – نلاحظ إما أن الرئيس الأميركي أخفق في إقناع «شريكه» الروسي فلاديمير بوتين في دخول حلبة الرقص.. أو أن بوتين يفضل «الجودو».

مشهد الارتباك الأميركي، واستطرادا الغربي، إذا ما نحينا الكلام التهديدي الأجوف جانبا، يذكرني بالعجز الروسي المطبق عندما حاول إنقاذ الرئيس العراقي السابق صدام حسين من الضربة الأميركية القاصمة ضد حكمه في فبراير (شباط) ومارس (آذار) 2003.

يومذاك، خلال السنوات القليلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، كان الروس يدركون أنهم في وضع اللاعب «الأضعف»، ولذا حاولوا في بدايات رئاسة بوتين – ما غيره – إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا نفوذهم الإقليمي فأرسلوا «مستعربهم» يفغيني بريماكوف لإفهام الرئيس العراقي أن الأيام تبدلت والعالم تغير، فما عاد هناك نيكيتا خروتشوف ونيكولاي بولغانين لإنذار أنطوني إيدن وغي موليه بالانسحاب من سيناء وبورسعيد عام 1956، ولا ليونيد بريجنيف واليكساي كوسيغين لاستخدام «الفيتو» ولإنقاذ حلفاء موسكو المصريين والسوريين وإعادة بناء جيوشهم بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967.

«موسكو بوتين عام 2003» كانت هشة سياسيا واقتصاديا تستجدي نيات الغرب الحسنة. وكانت تتفهم بكثير من الواقعية أن عليها أولا التعافي من هزيمتها الاستراتيجية في «حرب عالمية ثالثة» وقعت بالتمادي، عبر جولات كثيرة وحروب بالواسطة على امتداد العالم، فأنهكت القوة السوفياتية الجبارة وأضعفت بنيتها، فتداعت من الداخل. وبعدما كانت دبابات «الجيش الأحمر» تفرض مشيئة موسكو في شوارع بودابست وبراغ ووارسو وساحاتها.. صار برج مدفع أحدها منبرا أعلن من فوقه بوريس يلتسين – الذي كان في يوم من الأيام رئيس تنظيم الحزب الشيوعي في موسكو نفسها – انقلابه على الشيوعية دولة.. بعدما انقلب عليها فكرا.

في تلك الأيام كانت أميركا منتشية بانتصارها التاريخي. كان رونالد ريغان و«جمهوريوه» الآيديولوجيون يهنئون أنفسهم بانتصار ديناميكية الرأسمالية وشراهة اقتصاد السوق الريغاني (Reaganomics) على اشتراكية الترهل والحرمان والاكتفاء. وأخذ بعض الأكاديميين الأميركيين يتسابقون على تدبيج النظريات المعتزة بالنصر والمستشرفة ما بعده، فكتب فرانسيس فوكوياما عن «نهاية التاريخ» وصامويل هنتينغتون عن الإسلام باعتباره الخصم المقبل للهيمنة العالمية الأميركية، ونشط غلاة اليمين في فلسفة صياغة أبعاد ما سموه «القرن الأميركي».

ولكن بعد 11 سنة ها نحن أمام أميركا مختلفة وروسيا أكثر اختلافا. إننا نعيش ما يبدو، على الأقل للعاطفيين منا، حقبة انتقام روسي تخدمها الظروف الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

أميركا اكتشفت بعد انتصارها في «حرب تحرير الكويت» من صدام حسين في عهد جورج بوش الأب أن ما يهم الأميركي العادي.. قيمة الدولار في جيبه. ولهذا السبب انتصر بيل كلينتون تحت شعار «إنه الاقتصاد يا غبي» على «بطل» تحرير الكويت، وعلى الرغم من مشاغبات الجمهوريين والفضائح النسائية للرئيس الديمقراطي كسب كلينتون ثانية، وكاد نائبه آل غور أن يكسب انتخابات خريف عام 2000 لولا إهداء أمينة ولاية فلوريدا «الجمهورية» كاثرين هاريس أصوات ولايتها لمنافسه جورج بوش الابن، ففاز بمجموع الأصوات الانتخابية مع أن غور تقدم بالأصوات الشعبية.

كان الاقتصاد، الذي هزم الاتحاد السوفياتي، هاجسا دائما عند الديمقراطيين الذين يمثلون الطبقة الوسطى وما دون الوسطى في أميركا، بينما كان الأمن واستثمار القوة العسكرية الوسيلة الفضلى عند الجمهوريين و«لوبياتهم» المصلحية للهروب من تبعاته (أي الاقتصاد) الاجتماعية. وحقا عندما تعرضت أميركا لاعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 كانت هذه الاعتداءات خير هدية تهدى إلى التيار المتشدد في الحزب الجمهوري لكي يهرب إلى الأمام من الاقتصاد.. إلى الحرب. وهذا ما حصل إذ أطلق بوش الابن «الحرب على الإرهاب» فاحتل أفغانستان وغزا العراق وأسقط صدام.. وفاز في انتخابات عام 2004.

عند هذه المحطة كان هناك لاعب إقليمي كبير يلعب لعبته بذكاء.. اسمه إيران. إيران تحركت بدهاء فـ«جرت رجل» بوش وجهاز أركانه من «المحافظين الجدد»، وجلهم من غلاة الليكوديين (Likudniks)، لإسقاط النظام العراقي «العدو المشترك» لطهران وتل أبيب. وأغرت «الشيطان الأكبر» بأن يتولى تخليصها من عدوها الإقليمي المباشر – الذي فاته وعي أن الظروف تغيرت – وهكذا تلاقت المصالح.

«السيناريو» كان بسيطا: «لوبيات» واشنطن تكسب. إسرائيل تكسب. والمنطقة تنشغل في أحقاد طائفية ومذهبية وتنخرط في صراع إسلامي – إسلامي لا ينتهي. غير أن التصور الأميركي عانى من عدة ثغرات، ولا سيما بعدما تحقق الهدف الأولى لكل من إيران وإسرائيل.. ألا وهو تدمير النظام العراقي ومؤسساته. وهنا لعب النظامان الإيراني والسوري – بمباركة ضمنية من روسيا – دورا في ابتزاز الأميركيين و«إقلاق راحة» الاحتلال، فبدأ تسهيل دخول جماعات أصولية سنية متشددة، بل واصطناع بعضها – على شاكلة «أبو القعقاع» محمود قولاغاسي – ما دفع حتى قيادات العراق الشيعية، عن سذاجة أو تغطية، إلى التشكي من تصرفات دمشق.

ونجحت الخطة، بعدما ارتفعت كلفة «الانفلاش» الاحتلالي الأميركي ماديا وبشريا. وأجبرت الأزمة الاقتصادية العالمية أميركا المؤمنة باقتصاد السوق إلى «تأميم» شركاتها العقارية والصناعية والمالية. واستفاد باراك أوباما، مثل كلينتون من قبل، فنادى بالانكفاء للاهتمام بالداخل، رافعا شعار «التغيير». واستجابت أميركا المنهكة ماليا و«المنفلشة» عسكريا لأوباما.. ففاز وحمل إلى البيت الأبيض سياسة الانكفاء والاكتفاء.

وفي المقابل، أحكم بوتين قبضته وأسس نظاما «قيصريا جديدا» يمجد التراث والمصالح والنفوذ العالمي. وكانت سوريا الاختبار الأول لصراع الإرادات، ودفع الشعب السوري حتى اليوم، وقد يدفع أكثر، الثمن الباهظ للانكفاء الأميركي وتصاعد النفوذ الروسي.

وبعد سوريا، كان طبيعيا ألا تتوقف الأمور عند هذا الحد، ولا سيما في ضوء سياسة «الأيدي المكتوفة» وتساقط «الخطوط الحمراء» التي اعتمدها أوباما في سوريا في وجه تحدي موسكو.

مضامين هذه السياسة فهمتها موسكو.. وها هي أصداؤها تتردد في القرم.