إعجاب وعدوان

TT

حدث ذلك في عام 1954. قطار الرحمة، هو قطار يحمل كل فناني مصر تقريبا في ذلك الوقت وكانوا كوكبة من ألمع البشر وأكثرهم فنا وعذوبة. مهمة القطار كانت هي القيام من محطة مصر والمرور بمدن الوجه البحري الكبيرة وتقديم حفلات بها يظهر بها كل الفنانين وذلك من أجل جمع تبرعات لأهل غزة التي كان يديرها حاكم عسكري مصري. لم يكتف الفنانون بالظهور في الحفلات، بل اختلطوا بجماهيرهم في الشوارع، وفي مدينة بورسعيد وفي إحدى أسواقها صاح أحد البورسعيدية في حفاوة ينادي فنانا: سي كمال يا شناوي.. سي كمال يا شناوي.. سي كمال يا شناوي..

التفت إليه كمال الشناوي بابتسامة عريضة فقال له البورسعيدي: وربنا شكري سرحان برقبتك.

لسنوات طويلة كنا نتبادل هذه الطرفة، أما الأمر المدهش فهو أنها قفزت على السطح في عقلي هذه الأيام، كل ضحكة من تراث الماضي لا تقفز إلى الحاضر بغير ما يوجب ذلك في الواقع ذاته. ماذا في هذا السلوك يعكس واقعا نعيشه هذه الأيام؟

ربما كان هذا المعجب معجبا بالفعل بشكري سرحان ويرى أنه أفضل من كمال الشناوي، هذا أمر طبيعي ولكن الطريقة التي أعلن رأيه بها فيها عدوان وإهانة حقيقية لكمال الشناوي لا لزوم لها، غير أنني بإعادة التفكير في الواقعة أرى أنها تلخص سلوكا عاما عند المعجبين منا، نحن نعجب بشخص أو نعتنق فكرة ليس لأنها تحقق لنا فائدة بل لنؤلم بها - أو نغيظ - طرفا آخر، بما في ذلك فكرة القومية العربية وغيرها من الأفكار السياسية الشمولية. هو نوع من العدوان لم ننجح حتى الآن في السيطرة عليه والسير به في قنواته الإنسانية المفيدة، هذا المعجب ليس في الواقع معجبا لا بكمال الشناوي ولا بشكري سرحان، بل كان هدفه بالتحديد هو العدوان على فنان لامع. غير أني أريدك أن تلاحظ التكنيك الذي استخدمه، صيحات الإعجاب إلى أن تنخدع الضحية وتستعد لسماع كلمات المجاملة والإطراء، وفي هذه اللحظة يضرب ضربته.

لذلك ستلاحظ بسهولة أن إعجابنا الملتهب أحيانا بفكرة القومية العربية، كان فقط لأنها تعطينا شرعية الإحساس الزائف بالتفوق على الآخرين الذين ليسوا قوميين عربا. إنها تعطيك الحق في شتيمة الإمبريالية العالمية والرجعية العربية والاستعمار وفلول الاستعمار وذيول الاستعمار. ولما كانت هذه الجهات جميعا لا عنوان معروفا لها فسنكتفي بشتيمة هؤلاء الذين لا يرددون ما نقوله نحن عنها. المدهش في الأمر أننا بعد إعجابنا الوهمي بالفكرة ننتقل على الفور إلى تخيل صفات نبيلة لها، ملزمة لنا وللآخرين، وعندما نصطدم بحقائق الواقع كما هو عليه نبدأ في الصراخ: أين العروبة..؟ كيف يمكن أن يعتدي العربي على العربي بهذه الطريقة؟

وبذلك نقر بأن الآخرين فقط هم الأوغاد وبذلك يكون من الطبيعي أن يعتدوا علينا وأن نعتدي نحن عليهم، هكذا تعلن العروبة عن نفسها بوصفها فكرة لمعاداة كل من ليس عربيا. وليس للنهوض بسكان المنطقة العربية، وهو الأمر الذي لن يتحقق بغير الإيمان بأن كل سكان الأرض ينتمون لقبيلة واحدة هي البشر.