إشكالية التأخر المزدوج

TT

وعي «التأخر المزدوج» هو ما نجد أنه، من جهة النظر التي نصدر عنها، يعبر أفضل تعبير عما كان يشغل مفكرينا العرب في الفترة التي يتواضع الدارسون على نعتها بعصر النهضة. والقصد بعصر النهضة (والبعض يتحدث عن اليقظة - باعتبارها الحال التي تعقب النوم) هو مرحلة الإنتاج الفكري العربي التي تمتد بين ثلاثينات القرن التاسع عشر وستينات القرن الماضي. وقد يجوز الحكم أيضا بأنها تشمل مجموع القرن العشرين لأسباب تتصل بطبيعة الإنتاج الفكري. وإذا كانت الدراسات التي تؤرخ للفكر العربي الإسلامي المعاصر تجتهد، بكيفيات تختلف باختلاف الرؤى التي تصدر عنها فإنها تلتقي جميعها عند تسجيل ملاحظتين، أولاهما أن المفكرين العرب في الفترة المشار إليها قد أدركوا وجود تفاوت كبير، بل شبه اختلاف جذري، بين واقع «التأخر» الذي كانوا يتخبطون فيه، وبين مظاهر «التقدم» التي كان الغرب الأوروبي يتنعم بها. ثانية الملاحظتين هي أن مفكرينا أولئك كانوا يرجعون أسباب تأخرهم في مقابل تقدم غيرهم من بلدان الغرب إلى العامل السياسي. نعم، كانوا يختلفون في تعداد عوامل كانوا يحكمون بأنها أصل الداء ولكنهم كانوا ينتهون في بسط آرائهم إلى التقرير بأن المعضلة الكبرى تكمن في «السياسة»، على نحو أو آخر، في نهاية المطاف.

كنت، ولا أزال، أعتقد أن حاجتنا إلى استحضار فكر «النهضة العربية» وإعادة النظر في الإنتاج النظري للمرحلة في مجمله والوقف عند النصوص التي كان لها بعض التميز والتأثير لهو من الأمور في هذه الفترة التي نجتازها من وجودنا العربي المعاصر. وإذن فالمسألة ليست مسألة أكاديمية بحتة، بل إنها تكتسي طابعا ثقافيا - سياسيا معا. ما أكثر ما تحدثنا، من هذا المنبر وربما من غيره أيضا، عن الحاجة إلى الوضوح النظري وإلى العماد الثقافي الذي ينير الطرق ويوضح الرؤية، وأحسب أن ما أعرض له اليوم فأنعته بالتأخر المزدوج يتصل بعمق المشكل وصلب القضية.

ما «التأخر المزدوج» وعلى أي نحو كان الفكر العربي الإصلاحي الحديث يعي هذا التأخر ذا الطبيعة المزدوجة؟

نقول إن مدار الفكر، في الإنتاج النظري العربي في عصر النهضة، هو قضية «التأخر المزدوج» لأننا نملك أن نجعل منها المفتاح الذي يشرع أمامنا دروب ذلك الفكر، فنحن نقول إن «التأخر المزدوج» هو الإشكالية التي نرى أن الفكر العربي الإصلاحي يدور حولها. وأستسمح القارئ الكريم في تحديد لفظ «الإشكالية» وقد كثر فساد فهمه وسوء استخدامه في كتاباتنا وأحاديثنا العربية فأقول في عبارة بسيطة: الإشكالية هي الصورة التي تتم بها صياغة قضية فكرية ما. وفي عبارة أخرى نقول: تساءل مفكرو الإصلاح في عصر النهضة عن السبب الأساس الذي يرون أن الواقع العربي يتخبط فيه فوجدوا أنه «التأخر المزدوج». إشكالية التأخر المزدوج كذلك لأنها قضية لها طرفان اثنان: طرفها الأول وعي التأخر في الوجود وفي الفكر عما توجد عليه الإنسانية المتقدمة، ممثلة في الغرب الأوروبي، وطرفها الثاني واقع العرب وبلاد الإسلام وتأخرهم عما كانوا عليه في سالف العهود الزاهية. هو إذن تأخر عن حال كان عليها العرب في الماضي، أيام القوة والسيادة وهذا من جانب، وتأخر عن حال توجد عليها الإنسانية المتقدمة وقد امتلكت أسباب القوة والسؤدد وبالتالي حازت كل ما يجد الإصلاحيون العرب المحدثون أن العرب والمسلمين يفتقدونه في واقعهم المعيش.

يتعين علينا، سعيا نحو إدراك أفضل لطبيعة الإشكالية موضوع البحث، أن نحاول تبين المعنى الذي يفيده «الماضي» الذي يحن إليه مفكرو النهضة ويأسفون على وجود العرب في مرتبة هي دونه من أوجه كثيرة يدل عليها أولئك المفكرون فيتفقون أو يختلفون في ترتيبها من حيث الأهمية والتأثير (سيادة التقليد في المعارف الدينية في مقابل الاجتهاد فيه في العهود «الذهبية»، تفشي الظلم والاستبداد في مقابل انتشار العدل في العهد السالف، انتشار الجهل والأمية في مقابل شيوع العلم وتعدد المدارس ووفرة العلماء...). ونحن إذ نمعن النظر في ما يريدونه بالعصر «الذهبي» أو العصر الذي يحق اعتباره مرجعا يكون القياس عليه واستلهامه في المعرفة والسلوك معا، فنحن نجد أن الشأن لا يتعلق بمرحلة زمانية معلومة نستطيع أن نحصرها في الزمان والمكان، وإنما بنوع من التركيب الذهبي يتم فيه استحضار وتركيب صور تنتسب إلى أزمنة مختلفة وإلى مناطق جغرافية متباعدة (عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، الخليفة المأمون، صلاح الدين الأيوبي، بيت الحكمة، بغداد، قرطبة، فاس، القيروان، القاهرة...). يمكن القول إن العصر «الذهبي» هذا أو الزمن «المرجعي» ذاك لم يكن عصرا ولا زمانا تحققا في التاريخ الفعلي على النحو الذي يرتسم به كل منهما في الوعي المعرفي لمفكري عصر النهضة وبالكيفية التي يمثل بها كل من ذلك العصر وذلك الزمان في الوجدان وفي المخيال. صورة بهية مشرقة، يستدعيها شحذ الهمم ويقتضيها رد الفعل المنطقي والطبيعي تجاه حال سمتها عند المفكر العربي الإصلاحي عدم الرضا عنها.

هل كان الشأن كذلك بالنسبة للصورة التي ارتسمت في الوعي العربي الإصلاحي للغرب الأوروبي؟

ليس للأمر، من الناحيتين الوجدانية والمنطقية، إلا أن يكون مماثلا بطبيعة الأمر. وبالتالي فإن الصورة التي ترتسم في الوعي الإصلاحي عن الغرب تكون من حيث إنه صورة يوجهها الانتقاء ويحركها البحث عن نموذج مرغوب فيه حينا ومرفوض حينا آخر، غير أني أريد لوعى التأخر المزدوج أن ينتقل فيكون مفيدا لنا في واقعنا العربي الحالي، في ظل هذه الأجواء التي نعيش فيها منذ السنوات القليلة الماضية. أحسب أننا اليوم في حال من التأخر الفكري المزدوج في واقعنا العربي الإسلامي، غير أننا في حاجة إلى التفكير في مكون جديد من مكونات العصر «الذهبي» أو «المرجعي» والقصد به عصر «النهضة» أو «اليقظة» العربية. ما أحوجنا إلى استحضار درس العصر والوقوف عند المغزى البعيد الذي تفيض به نصوص المرحلة، فنحن فعلا في حال التأخر عنها.