دول تتفكك.. في عالم يتوحد!

TT

«ربيع» الشعوب الذي بدأ عربيا بات يتحول إلى ظاهرة دولية يمتد مسرحها من الصين إلى فنزويلا، مرورا بمحطته المشتعلة الأخيرة: أوكرانيا. ويكاد السيناريو يكون واحدا: انتفاضة شعبية ومظاهرات وقمع وسقوط ضحايا، فاستقالة رئيس أو هربه. وكل ذلك بمتابعة العالم بأسره لما يحدث على شاشات التلفزيون وانقسام الأنظمة الحاكمة والمجتمع الدولي بين مؤيد للنظام الحاكم أو للشعب المنتفض. ترى، ما الذي حرك الشعوب وأثارها بهذا الشكل «الربيعي»؟ هل هو التوق إلى الحرية والديمقراطية والتخلص من حكم ديكتاتوري؟ أم هو الواقع الاقتصادي المتردي؟ أم وسائل الإعلام والتواصل الحديثة التي حولت كل إنسان يحمل هاتفا إلى مشارك في النضال أو مراسل صحافي يغذي الفضائيات بالصور التي تغطي وقائع الثورات وتمد الثائرين المتظاهرين بالعزم وتشجعهم على المضي في ثورتهم؟

ليست أسباب هذه الثورات واحدة، وإن كانت متشابهة في الشكل والأسلوب. لكن تدخل الدول الكبرى بل والمتوسطة الحجم فيها يكاد يكون عنصرا أساسيا مشتركا بينها. فما يحدث في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم يذكر بالحرب الباردة بن الشرق الروسي - الصيني والغرب الأوروبي - الأميركي. أما ما حدث ولا يزال يحدث في سوريا فإنه يعيد إلى الأذهان التنافس ذاته بين الشرق والغرب على هذه المنطقة من العالم، مع العلم بأن مصر والسعودية وسوريا نجحت، يومذاك، في إفشال مشروع الحلف العسكري الغربي، وأن تحالف عدة أنظمة عربية مع الاتحاد السوفياتي لم يحمل الشيوعية إلى العالم العربي.

هل ما نشاهده اليوم من ثورات شعبية أو حركات انفصال أو تحولات جيو - سياسية مهمة، في مشارق الأرض ومغاربها، يؤكد نهاية مرحلة من تاريخ العالم وبداية مرحلة جديدة؟

الجواب بـ«نعم» لا يحتمل التردد. فالعالم عام 2014 هو غير العالم قبل عشرين عاما، ومختلف جدا عن عالم الخمسينات والسبعينات من القرن العشرين، فكيف عن حقبة الدول القومية في القرن التاسع عشر؟.. بل إن بعضهم يذهب إلى حد القول بأن التغييرات والاكتشافات والاختراعات والثروات التي شهدها العالم في السنوات الخمسين الأخيرة تفوق، عددا ودورا وتأثيرا على حياة الإنسان والعلاقات بين الشعوب، عددا وأهمية اكتشافات واختراعات السنوات الألف السابقة. وليس من الطبيعي ألا يتغير الإنسان والمجتمعات والاقتصاد معها وبها!

أما العبرة الأخرى من هذا الربيع الثوري المتنقل فهي في ترابط الأحداث وتأثيرها بعضها على البعض. فما يحدث في أوكرانيا - أيا كانت نتائجه - سيؤثر على موقف روسيا من الثورة في سوريا، إما تشددا أو تراجعا أو صفقة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وما سيؤول إليه الانفتاح بين واشنطن وطهران من شأنه أن يؤثر على موقف إيران مما يجري في سوريا.. والعكس صحيح. لقد دخل العالم في مرحلة جديدة من العلاقات بين الدول، ومن أساليب الضغط والمناورات السياسية والعسكرية، كبديل عن الحروب الباهظة الثمن والضحايا. ويبقى السؤال الحائر الكبير المخيم على موقف ومكان ما كان يسمى بالأمة أو العالم أو الوطن العربي أو الشعوب الناطقة بالضاد، من هذه التحولات العالمية التي تتقاذف بالشعوب والأوطان والدول. لقد أسقط الربيع العربي عدة أنظمة حاكمة عربية، ولم تخمد نيرانه في بعض منها، بل وتحول إلى حرب أهلية في سوريا. ولا شيء يبشر حتى الآن بأن الشعوب التي أسقطت نظم حكمها قد اهتدت إلى أول طريق الاستقرار والتقدم والحرية الحقيقية. كما لا شيء يدل على أن قضية السلام بين العرب وإسرائيل هي في طريق الحل.

كثيرة هي الدول التي ارتسمت حدودها بعد مؤتمر فيينا أو معاهدة فرساي أو اتفاق يالطا، وتفككت تشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، وغيرهما مهدد بالانقسام (بلجيكا). وبعد تقسيم السودان هناك أكثر من بلد عربي مرشح أو مهدد بالتقسيم (ولا داعي للتسمية). حتى المملكة البريطانية الموحدة التي حكمت ثلثي العالم يوما ما مرشحة لاستقلال اسكوتلندا عنها. وكل هذه الجمهوريات «الإسلامية»، التي كانت في عهد الاتحاد السوفياتي جزءا منه ونالت نصف أو ثلاثة أرباع استقلالها بعد سقوط الشيوعية، تحلم شعوبها، اليوم، بالرغبة في مزيد من الاستقلال والابتعاد عن موسكو. ولا ننسى دول شرق أوروبا الشيوعية سابقا التي لا تخفي شعوبها انجذابها إلى مصير مشترك مع الاتحاد الأوروبي وليس مع روسيا. فهل نحن أمام «تركيبة» جديدة للعالم تتراجع فيها الدول القومية أو التاريخية أمام نموذج الدولة العرقية أو الدينية أو الطائفية أو الطبيعة، لا سيما بعد أن أزالت وسائل التواصل الحديثة الحدود بين الدول والبشر، وربطت العولمة بين اقتصادات الدول، وباتت السوق المالية الافتراضية المجهولة الحجم والمستفيدين تحرك قسما كبيرا من ثروات الدول والبشر؟

دول تتفكك وعالم يتوحد. انتفاضات شعبية تطيح بأنظمة حكم وفرت الاستقرار على حساب الحرية والكرامة، وديمقراطيات تتعثر في خطواتها الأولى، ودول كبيرة تتخلى عن دورها العالمي (الولايات المتحدة) وأخرى تتدخل في النزاعات الإقليمية والوطنية تحت شعارات جديدة (روسيا). لقد دخل العالم في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين حقبة جديدة من تاريخ البشرية، تراجعت فيها المسلمات والقواعد السياسية الدولية التقليدية، وانطلقت فيها معظم الشعوب نحو آفاق جديدة وربما مجهولة، لا سيما نحن الشعوب المسماة، حتى إشعار آخر، بالعربية أو الإسلامية.