ماذا يريد السيد الرئيس؟

TT

أيام قليلة تفصلنا عن زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما المرتقبة لمنطقة الشرق الأوسط.

زيارات أوباما الخارجية حدث مهم واستثنائي. وحتى إذا كان الرئيس الأميركي يتصرف وكأنه لا يدري.. فقدر الولايات المتحدة، كقوة عالمية كبرى، أن تتصرف حقا كقوة عالمية كبرى. قدرها ألا تفر هاربة من مطبخ ارتفعت درجة الحرارة فيه، وألا تتخلى مذعورة عما اعتبرتها «مناطق نفوذ» خاضت من أجل المحافظة عليها ومصالحها فيها حروبا، حتى الأمس القريب. وهذا، طبعا، من منظور أميركي لا شخصي.

في حوار للرئيس أوباما أجراه معه الصحافي جيفري غولدبرغ في وقت سابق من الشهر الحالي كشف الرئيس جوانب مثيرة من سياساته الشرق الأوسطية المبنية على افتراضه: أولا، أن إيران «اليوم أضعف مما كانت عليه»، وثانيا أنها «قوة إقليمية عاقلة لا تقدم على الانتحار بل تتجاوب مع الحوافز»، وثالثا أن «التغيير حاصل وعلى الجميع التأقلم معه».

أوباما أجاب على سؤال حول قلق الشارع السني - والقيادات السنية - في الشرق الأوسط من سياساته بالقول: «أعتقد أن ثمة تغيرات في المنطقة باغتت كثيرين منهم. التغيير دائما يثير المخاوف. كانوا مطمئنين لبقاء الولايات المتحدة مرتاحة للوضع الراهن والتحالفات القائمة، وأنها في حالة عداء مستحكم مع إيران، مع أن هذا العداء بمعظمه كان خطابيات لم تترجم عمليا بوقف مشروعها النووي. الخطابيات كانت جيدة. لكنني قلت وما زلت أقول لشركائنا في المنطقة بأن علينا التجاوب والتأقلم مع التغيير، وبيت القصيد هو كيف نضمن ألا تستحوذ إيران على السلاح النووي».

وردا على سؤال عن أيهما يراه أخطر.. التطرف السني أم التطرف الشيعي، قال أوباما: «بصفة عامة لست ملما بشؤون التطرف.. لكن ما أود قوله هو أنك إذا نظرت إلى تصرف الإيرانيين ترى أنهم استراتيجيون وبعيدون عن ردات الفعل التلقائية؟ لديهم رؤية عالمية، ويستطيعون أن يروا أين موقع مصالحهم، ثم إنهم يتجاوبون مع الثمن والمنفعة.. إنهم ليسوا كوريا الشمالية..».

الكلمتان المحوريتان في هذا الكلام هما «التغيير» Change و«الشركاء» Partners. ولئن كان مضمون «التغيير» واضحا، فهذا لا ينطبق بالضرورة على تعريف «الشركاء». فمن هم «الشركاء» الذين يعنيهم أوباما، إضافة إلى إسرائيل طبعا.

إذا كانت المسألة برمتها مرتبطة حصرا بالسلاح النووي الإيراني، فالإجابة على السؤال عن هوية «الشركاء» ستكون محدودة جدا، ولا تغطي طيفا من القضايا التي تقلق «الشارع السني» في الدول المفترض نظريا أنها «شريكة». والسبب أن طهران تخوض اليوم حروبها الفعلية، تنفيذا لمشروع الخميني المبدئي القائم على مبدأ «تصدير الثورة»، بأسلحة كلاسيكية لا نووية.

طهران حولت حتى الآن أربع دول عربية هي العراق وسوريا ولبنان واليمن.. إما إلى «دول فاشلة» أو «مستعمرات واقعية». وهي ناشطة بالتنسيق، أو تقاطع المصالح الإقليمية عن طريق «لوبياتها» في واشنطن، في التلاعب بمصائر البحرين ومصر، بعدما قضت على وحدة الفلسطينيين. كل هذا من دون سلاح نووي.

«السلاح النووي وحده» مصدر قلق للاعب إقليمي وحيد هو إسرائيل. وعليه، فحصر الخطر الإقليمي الذي تشكله إيران - في ظل طموحات قيادتها الحالية - بهذا السلاح يشكل إرضاء مباشرا لإسرائيل دون غيرها. أما إهمال الاضطرابات والمجازر والمحن - بعد اعتبارها مجرد جزء مما يسميه الرئيس الأميركي «التغيير» - فيشكل تهديدا لأي معنى لـ«الشراكة».

اختصار الصورة الكبيرة بتفصيل واحد يذكرنا بمحطة أخرى مقلقة شهدناها أخيرا تمثلت بتعامل واشنطن مع استخدام نظام بشار الأسد السلاح الكيماوي ضد المدنيين السوريين.

في البداية هددت الإدارة الأميركية نظام الأسد بالويل والثبور إذا ما واصل القمع الدموي الممنهج للمدنيين منذ تفجر الانتفاضة الشعبية السورية قبل ثلاث سنوات. غير أن تهديدات واشنطن ذهبت أدراج الرياح وتحولت «خطوطها الحمراء المتتالية» إلى شبه مهزلة يشهد عليها استمرار المجازر بالبراميل المتفجرة، ومواصلة النظام عملية التهجير الفئوي،.. لا بل والتحضير لانتخابات رئاسية مفصلة على قياس «الرئيس القائد» ومحسومة سلفا لمصلحته، على الطريقة الكورية الشمالية، ولا سيما، في ظل نصوص قانون الانتخابات الرئاسية الذي أقر أخيرا.

الكلام الكثير عن أن «لا مكان لبشار الأسد في مستقبل سوريا»، كما كان الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري يكرران، تبخر وتلاشى أمام الفظائع المتوالية. ومن ثم وضعت موسكو بنفسها نهاية كذبتها القائلة بأن «الحل الوحيد للأزمة السورية يتمثل بتسوية سياسية» بعد فضيحة «جنيف 2».. إذ تبين أن «التسوية السياسية» المزعومة كانت فقط مخدرا و«كسب وقت» ريثما يحقق الدعم الميداني الإيراني - الروسي تغييرا استراتيجيا على أرض المعركة في غياب أي دعم غربي نوعي ملموس للمعارضة. وأخيرا وليس آخرا.. سقطت كل الوعود المعسولة المقطوعة للشعب السوري و«الجيش الحر»، على الرغم من انفضاح هوية الجهات الإقليمية الداعمة فعلا للمنظمات الإرهابية، التي طالما تذرع المجتمع الدولي بتجاوزاتها كي لا يسلح «الجيش الحر».. ولا يفعل شيئا.

لقد تجاهلت واشنطن كل وقائع المشهد المأساوي السوري بمجرد موافقة نظام الأسد على تسليم مخزونه من السلاح الكيماوي المفترض ألا يمتلكه أصلا.. ناهيك من استخدامه ضد شعبه. يومذاك اختصرت واشنطن كل أبعاد الأزمة السورية وحصرتها بمسألة سلاح كيماوي يقال الآن إنه لم يسلم سوى جزء منه، تاركة النظام و«شبيحته» يواصلون المجازر التي راح ضحيتها حتى اللحظة ما بين 300 و400 ألف قتيل وعشرة ملايين لاجئ ونازح.

لماذا حصل هذا؟ ولمصلحة من؟

حصل هذا لخشية «الشريك» الإقليمي الأساسي - أي إسرائيل - من إمكانية وقوع الأسلحة الكيماوية بأيدي زمر وعناصر غير منضبطة، بعكس النظام السوري الذي كانت تطمئن إلى نياته تجاهها. وهكذا، بعد إزالة هذا الخطر، راحت محنة السوريين في غياهب النسيان.

المنطقة اليوم تدرك جيدا ما يحيط بها وما يتفاعل بداخلها. ولكن على واشنطن ألا تصدر أوهامها إلى الآخرين. فما عاد هناك ما يباغت أبناء المنطقة، وما عاد أهلها يتفاجأون بشيء.