المرأة في الوعي الإسلامي المعاصر

TT

قبل بضعة أيام نظمت مكتبة الإسكندرية ندوة جعلت موضوعها «قضايا المرأة: نحو اجتهاد إسلامي معاصر». وحديث المرأة وقضاياها في العالم العربي حديث لا يكفي القول فيه، إنه لأسباب كثيرة حديث تتكرر فيه الأقوال وتتشابه، بل إنه في حقيقة الأمر يكشف عن التحول الذي يصيب الوعي ذاته سلبا وإيجابا. وليس الشأن في هذا مما ينفرد به العرب دون غيرهم من الشعوب. فأنت لو نظرت في الإنتاج الغربي النظري، بعد الحرب العالمية الثانية مثلا، لتبينت من الأفكار ما كان مجهولا في وعي الفرنسي أو الإيطالي قبل ذلك بعقود قليلة فحسب. ثم إنك لو اطلعت على البعض مما كانت الساحة الفرنسية تموج به من أفكار تدعو إلى إحدات ثورة شاملة في الوجود الفرنسي في الحركة التي عرفت بثورة 1968 لحكمت بظهور انقلاب شامل في الوعي الفرنسي، متى قيس الأمر بما كان عليه قبل ذلك بسنوات قليلة لا غير. بل إن التمرد الفكري الذي حملته ثورة مايو (أيار) من السنة المذكورة في فرنسا سيكون دعوة إلى القيام بمراجعات جذرية شاملة (أو كذلك كان الشعار الذي حملته) في قضايا التنظيم الاجتماعي والسياسي، وسيكون خطاب المرأة (وعيها بذاتها، ووعي الرجل لذاته من خلال إعادة التفكير في المرأة ومكانها المطلوب في المجتمع الفرنسي، وكذا في طبيعة العلاقة الجيدة المطلوبة بين الرجل والمرأة) خطابا محوريا في الخطاب الثوري لحركة مايو 1968 في فرنسا. وهل لنا أن نغفل أن الفكر العربي في المرحلة التي نتواضع على نعتها بعصر النهضة قد حفل بالدعوة إلى مراجعات شاملة للموقف من المرأة (قضايا الحجاب والسفور، تعدد الزوجات، تعليم المرأة..)، وكذلك كان الشأن في كتابات رجال المرحلة المذكورة (الطهطاوي، الكواكبي، محمد عبده، قاسم أمين، الطاهر الحداد، محمد الحجوي.. وأفرد آخرون للقضية مؤلفا أو أكثر. وفي كل الأحوال جعلوا من المرأة بعضا من القضية الكبرى التي ينافحون عنها).

وإذن، فإن من المنطقي تماما أن يعود خطاب المرأة العربية إلى الظهور، وأن يعود الناس للقول فيها بعد هذه الحركة التي يعرفها الشارع في مناطق من العالم العربي وتلوح إمارات بانبثاق أخرى غيرها في مناطق أخرى. وأيا كان الأمر فإنه لا يسع المتابع لأحوال العالم العربي، إلا أن يقر بأن «قضايا المرأة» تعود بعد خفوت نسبي سنوات قليلة لتملأ الساحة وتشغل الوعي الثقافي العربي الإسلامي حاليا. ومن هذه الناحية، فإن دعوة مكتبة الإسكندرية إلى عقد ندوة علمية في الموضوع، وكذا مبادرتها إلى إصدار بيان في الموضوع يستهدف القراءة الشاملة لأحوال المرأة العربية حاليا، بل وطموحها إلى أن يكون للبيان صدى وتاريخ قويان يرتبط بالبلد الذي صدر منه «إعلان الإسكندرية»، إن هذه الدعوة مشروعة مبررة. وليس من المغالاة في شيء أن يقول المرء، إن من شأن هذه الندوة التي عقدت في مدينة الإسكندرية، بالنظر إلى الظرف السياسي - الاجتماعي الذي تعيشه مصر، وبالنظر إلى التاريخ الذي نظمت فيه، وبالنظر كذلك إلى طبيعة العروض التي قدمت فيها، إن من شأنها أن تكون مؤشرا دالا على الوعي بوجوب النظر في قضايا المرأة العربية نظرا جديدا، وأن تأتي الدعوة إلى ربط ذلك النظر الجديد باجتهاد إسلامي معاصر.

حضرت أعمال الندوة وتابعت جلساتها، وأول ما يسترعي الانتباه في جدول أعمال الندوة وفي الأبحاث التي قدمت فيها هو أن الغالبية المطلقة من الأوراق المعدة، وكذا من التعقيبات على الأبحاث، حملت توقيع باحثات (تسعة أبحاث من أساس عشرة). وإنني إذ أسجل ذلك فإنني أفعل من جهة التنويه والإعجاب والتقدير للقائمين على تدبير الندوة وكذا إعداد مسودة «إعلان الإسكندرية». وثاني أمر يستوجب الانتباه كذلك هم أن الموضوعات التي تم التطرق إليها هي مشكلات لا تزال (أحببنا ذلك أم كرهناه، عجبنا منه أم اعتبرناه واقعا راهنا ملموسا) تقض مضاجع النساء والرجال على السواء (إيقاع الضرب على المرأة، احتجاجا بالآية الكريمة التي تتعلق بنشوز المرأة، تعدد الزوجات، مسألة القوامة، والموقف من دعاوى المساواة التامة بين المرأة والرجل، استقلال المرأة بحقوقها الاقتصادية..). وبالتالي فقد كان التوجه إلى المشكلات الفعلية التي لا تزال قائمة، بل لعلها تزداد في بعض المناطق من الوطن العربي استفحالا. وقد كان من المثير حقا أن يتبين الحضور، من خلال بعض تدخلات وتعقيبات سيدات مسلمات من إندونيسيا وماليزيا ممن شاركن في المؤتمر، واقع التفاوت بين أحوال المرأة المسلمة في البلاد الإسلامية خارج الوطن العربي وبين ما هي عليه المرأة، من جهة نقصان بعض الحقوق، في دول من العالم العربي. وثالث أمر يسترعي الانتباه هو أن حديث المرأة (والرجل أيضا، من خلال ما استمعنا إليه من أقوال) عن صورة المرأة في الإسلام لم يعد حديثا تمجيديا دفاعيا فحسب: بين دين يرفع قدر المرأة عاليا، وواقع يضعها في منزلة أدنى من المكانة التي يجعلها الإسلام لها، بل إن الجديد هو أن الأبحاث المقدمة سلكت استراتيجية عفوية (فلم يتوصل المكلفون إعداد الأوراق إلى تعليمات محددة أو توجيهات ترسم الخط وتعين الخطة الواجب الأخذ بها).

وحاصل هذه الاستراتيجية هي القول بوجود تفاوت هائل بين خطاب بعض الفقهاء والمفسرين والخطاب الشرعي الأصلي من الآيات القرآنية الكريمة ومن السنة النبوية وصحيح الحديث، بل إن هذا التفاوت يبلغ درجة الابتعاد عن النص الشرعي إن لم يكن الأمر متعلقا بالانحراف عن الدلالة الشرعية والعمل بما تقضي به والأخذ بما يكشف عنه العمل بمقاصدها. إن النتيجة المنطقية التي ينتهي إليها الأخذ بمقتضيات هذا الرأي الذي كانت الأبحاث، في عمومها، تقول به يفضي إلى التقرير بأن النصوص التراثية، في الأغلب من الأحوال، تغل النص الشرعي بقيود ثقيلة تحجب عنا الرؤية وتمنعنا من الوضوح ومن الأخذ بالمنطق الشرعي في فهم النصوص التشريعية المؤسسة، تلك التي يقضي بها قول الله تعالى في القرآن الكريم والدلالة الحق للسنة النبوية، والحديث الصحيح عمدتها أولا وأخيرا.

كان المؤتمر فرصة سانحة لاستدعاء قضايا تتعلق بالمساواة، وبالتراث ودلالته وبالصلة بين التراث والنصوص الشرعية الأصلية مما لا يتسع لنا المجال لبسط القول فيه، ونعد بالرجوع إليه لعمق صلته بقضايا المرأة وبالوجود الإسلامي المعاصر.