عودة إلى «اللبنانين»

TT

لا جديد تحت شمس لبنان: أزمة تردفها أزمة وتتلقفها أزمة وكلها ترحل، بنهاية المطاف، دون حلول يعتد بها، وكأن العنوان العريض للعبة السياسية فيه إدارة فن الانتقال من أزمة إلى أخرى بأقل خسارة ممكنة لكل فرقائه السياسيين.

اليوم ينحصر خلاف اللبنانيين، ظاهرا، في صيغة فقرة في البيان الوزاري لحكومة الرئيس تمام سلام تتعلق بالمقاومة، وتحديدا ما إذا كان آن الأوان لربطها بمرجعية الدولة وقرارها أم إبقائها احتكارا أو «إدارة حصرية» مستقلة بيد حزب واحد أثبت أن ارتباطاته الإقليمية لا تحول دون توظيفها خارج نطاق هدفها المحدد بمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.

غير خاف أن توقيت الخلاف على هذا النص في بيان حكومة سلام فاقم من حدته كونه يصاغ في ظرف بالغ الدقة، داخليا وإقليميا، وربما مفصليا في مسعى «الدولة» لترجيح مقامها على «الدويلة».. وإن كان اللبنانيون لا يجمعون اليوم على تحديد من هي «الدولة» ومن هي «الدويلة» في بلدهم.

ولكن، بعد أن صبروا عشرة أشهر على ظهور «معجزة» تشكيل الحكومة اللبنانية الواحدة (وغير الموحدة سياسيا)، هل يعجز أقطاب بلد الملل الطائفية والنحل المذهبية والبدع السياسية عن استنباط صيغة بيان وزاري يحفظ «إبهامه» ماء وجه الجميع ويرضي، في الوقت نفسه، ما تبقى من مؤسسة الدولة؟

بادئ ذي بدء، لا بد من التذكير بأن البيانات الوزارية في لبنان مجهود إنشائي أكثر مما هي برامج عمل سياسية، فنادرا ما يطبق بند منها قبل أو بعد أن يجف حبره.. ويتبدد.

مع ذلك لا بد من التنويه بحرص الرئيس تمام سلام - ابن المسؤول الحكومي الذي طرح في أواخر خمسينات القرن الماضي شعار «لبنان واحد لا لبنانان» - على جمع «لبناني» والده على سطح واحد.

ولكن بعد أكثر من خمسة عقود هدرت عبثا على محاولة توحيد «اللبنانين»، هل يلام الرئيس سلام إنْ هو تعامل مع الوضع اللبناني «بواقعية»، أي انطلاقا من وجود لبنانين لا لبنان واحد، واحتكم بالتالي إلى البرلمان اللبناني ليحسم بتصويته النص الذي يقترح على الحكومة اعتماده بالنسبة لوضع المقاومة في لبنان: إما النص الذي يربطها بقرار الدولة أو النص الذي يتركها «مبادرة خاصة» لحزب واحد.

ربما بدا هذا الاقتراح بدعة سياسية أكثر مما هو سابقة برلمانية. ورغم أنه يفترض موافقة الطرفين المبقية عليه، وتعهدا ثابتا بالالتزام بنتيجة التصويت، فقد يشكل مخرجا «ديمقراطيا» من أزمة تثقل كاهل الطرفين معا، «فالدولة» اللبنانية لم تعد قادرة على تحمل تبعات المغامرات الإقليمية «لحماة» المقاومة - ناهيك بتصرفاتهم الداخلية - ولا «دويلة» المقاومة في وارد التخلي قريبا عن آخر ورقة توت آيديولوجية تستر «عوراتها» السياسية.

لا يلام «تكتل 14 آذار» إذا كانت موافقة حزب الله على التنازل عن شرط «الثلث المعطل» في حكومة الرئيس سلام شجعته على دفعه إلى تقديم تنازل آخر على صعيد «المقاومة».

ولكن شتان بين التنازلين بالنسبة للحزب، فإذا كان تخليه عن شرط «الثلث المعطل» لا يحول دون مشاركته في حكومة لبنان - بل يسهلها في وقت يحتاج فيه إلى شكل من أشكال الشرعية الرسمية - فمن شأن تخليه عن صفة المقاومة أن يفقده، سياسيا، مبرر وجوده في لبنان، وعسكريا ورقة ضغط ثمينة أصبحت، بعد تدخله الميداني في سوريا، ورقة إقليمية بامتياز.

إلا أن المفارقة السياسية - وربما التاريخية - التي يثيرها موقف حزب الله في وجه الرئيس سلام تبقي وضعه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما اختيار «حكومتين» في لبنان واحد أو «لبنانين» في حكومة واحدة.. وكلاهما خيار مر.