على عتبة العام الرابع من الثورة السورية

TT

تدخل الثورة السورية خلال أيام عامها الرابع من الكفاح من أجل الحرية والكرامة، وآفاق الحل السياسي للصراع الدموي في البلاد ما زالت مجهولة، ومعاناة الشعب السوري تزداد حدة يوما بعد يوم. ثمن الحرية والعدالة التي طالب بها السوريون مرتفع، بلغ حتى الآن أكثر من 140 ألفا من الشهداء حسب أكثر الإحصائيات تشددا، وأكثر من 180 ألفا من المفقودين، وملايين من النازحين واللاجئين والمنازل والبنى التحتية المدمرة، وكم لا يحصى من المعاناة والألم وضياع في الإنتاج، وتراجع في الحياة التعليمية والإنتاجية والثقافية.

مؤتمر جنيف الثاني حول سوريا، الذي أعطى الكثير من السوريين أملا بالوصول إلى حل سياسي، انتهى إلى طريق مسدود بعد أن رفض النظام تنفيذ الخطة التي وضعها بيان جنيف والتي تبدأ بتشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية. ممثلو النظام تذرعوا برغبتهم في تطبيق بيان جنيف بندا بندا وادعوا أن البند الأول هو محاربة الإرهاب. البند الأول من بيان جنيف لا يشير من قريب أو بعيد إلى موضوع الإرهاب، ولكنه يتحدث عن وقف العنف في البلاد بالتزامن مع فك الحصار عن المدن وإعادة الجيش إلى ثكناته. بند وقف العنف من بيان جنيف الذي تشبث به ممثلو النظام بعد أن سموه بند محاربة الإرهاب هو البند الأول من النقاط الست التي حملتها مبادرة كوفي أنان في منتصف عام 2012 وقبلها النظام حينذاك، ولكنه لم يعمل بها، كما بين كوفي أنان قبيل استقالته في رسالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة.

المساهمون في مؤتمر جنيف الأول أدركوا، بعد محاولات كثيرة سبقته لوقف الاقتتال وإنهاء الصراع الدموي، أن نظام الأسد غير معني بحل الأزمة سياسيا ولذلك حددوا خطة عملية لإنهاء الصراع تبدأ بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية يتم اختيار أعضائها بالتوافق بين الحكومة والمعارضة، وتكلف العمل على تنفيذ النقاط الست والإعداد لدستور جديد وانتخابات حرة ونزيهة. لذلك أصر وفد المعارضة على مناقشة آليات تشكيل الهيئة الحاكمة بالتوازي مع بحث ملف العنف والإرهاب، ولكن النظام رفض التعاطي مع جدول الأعمال هذا الذي تبناه المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي وقبله وفد المعارضة. وفد النظام الذي لم يكن مخولا من قبل رئيسه بالحديث عن هيئة حاكمة انتقالية اختار الدخول في حرب إعلامية لإخفاء حقيقة موقفه، واتهم وفد المعارضة بالإصرار على البدء بتشكيل هيئة حاكمة سعيا وراء السلطة، متجاهلا أن الهيئة الحاكمة سيتم اختيارها بالتوافق بين الوفدين، وأن أعضاء تلك الهيئة لن يتشكلوا بالضرورة من داخل الوفود المفاوضة.

نظام الأسد أعلن مرارا وتكرارا على لسان رئيسه بأنه لن يدخل في حوار إلا بعد القضاء على «الإرهابيين»، وهو مصطلح يستخدمه النظام للإشارة للثوار الذين حملوا السلاح للدفاع عن مدنهم وقراهم وأحيائهم ضد هجمات قوات النظام المكونة من قوات النخبة ذات التركيبة الطائفية داخل الجيش ومن الفصائل الشيعية المتحالفة مع النظام. وبينما تجاهل النظام القوة الإرهابية الحقيقية في سوريا، كداعش وفصائل أبو الفضل العباس، واختار الدخول معها في تحالفات استراتيجية، بل والتنسيق تكتيكيا في بعض المعارك كمعركة أعزاز، واجهت قوى الجيش الحر هذه التنظيمات الطائفية الدموية التي تقاتل بعقيدة البعث فتبيح تصفية المعارضين والخصوم السياسيين، ولكنها تختبئ خلف شعارات وادعاءات إسلامية تلتزم ببعض أشكال الإسلام التاريخية، بينما تتعارض كليا مع روحه السمحة وقيمه الإنسانية السامية.

سعي النظام للوصول إلى حسم عسكري وهم كبير وسعي وراء سراب، فالحل الوحيد الممكن في سوريا اليوم هو الحل السياسي الذي يحقق أهداف الشعب في المشاركة السياسية وحرية الرأي والتنظيم وبناء دولة القانون التي تسمح بمساءلة القيادات السياسية وتحقيق العدالة. قيادة النظام التي استخدمت كل الأدوات المتوفرة لديها، من أمن وجيش واقتصاد، للبقاء في السلطة عملت على تدويل الصراع بالاعتماد على ميليشيات لبنانية وعراقية وإيرانية ذات هوية طائفية واضحة. ومع تزايد حجم وجود قوى خارجية على الأرض السورية، والاعتماد على دعم مالي وعسكري خارجي متزايد، وحصول النظام على الكميات الأكبر والنوعية الأفضل من هذا السلاح، تراجع القرار الوطني، وانتقل التأثير إلى القوى الإقليمية والدولية الفاعلة على الساحة السورية والمتدخلة في الشأن السوري. سوريا اليوم مستباحة إقليميا ودوليا، وحديث النظام عن سيادة وطنية يأتي من باب ذر الرماد بالعيون. فالنظام كالمعارضة يعتمد اليوم على دعم إقليمي ودولي لمواجهة الطرف الآخر، والطريقة الوحيدة لعودة السيادة إلى السوريين هي الوصول إلى حل سياسي بين الأطراف السورية المتنازعة، وبالتالي القبول بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية بكامل الصلاحيات، تعمل على إنهاء الاقتتال وبدء العملية الانتقالية نحو نظام جديد يحقق سيادة الشعب السوري.

الخيارات المتوفرة أمام السوريين أصبحت اليوم واضحة: إقامة دولة المواطنة التي تحترم حقوق السوريين بكل مكوناتهم، والتي تعمل على إعادة إعمار سوريا وتحويلها إلى دولة ناهضة، أو الاستمرار في صراع عسكري يمكن أن يمتد إلى عقد من الزمن، تتحول فيها سوريا إلى دولة فاشلة شبيهة بالدولة الأفغانية أو الصومالية. ولأن الخيارات واضحة فإن السوريين مطالبون اليوم باتخاذ القرار الذي يمنع انهيار دولتهم، ويعينهم على إقامة دولة ناهضة تحمي أبناءها وتسمح لهم بالعمل لبناء حياة كريمة لهم وللأجيال القادمة، وبالتالي الإصرار على الوصول إلى حل سياسي وفق إطار بيان جنيف.

السوريون مطالبون باتخاذ القرار الذي يمنع انهيار دولتهم ويعينهم على إقامة دولة ناهضة تحمي أبناءها، وتسمح لهم بالعمل لبناء حياة كريمة لهم وللأجيال القادمة. وهذا يتطلب تغييرا جذريا في الطروحات المتداولة ضمن دوائر السلطة والمعارضة. في دوائر المعارضة، يجب على كل القوى الثورية والسياسية الالتزام بالرؤية الأساسية التي اجتمعت حولها قوى المعارضة، وحظيت بدعم دولي واسع، والمتمثلة بقيام دولة المواطنة التي تحترم الحقوق والتعددية السياسية والدينية داخل البلاد. وهذا يعني أن على القوى الثورية والفصائل الإسلامية الالتزام بهذه الرؤية الجامعة التي تتفق من حيث المبدأ مع قيم الإسلام المؤكدة على الحرية الدينية والشورى واحترام الخلافات العقدية. أما في دوائر السلطة، فإن المطلوب التخلي على مفهوم دولة الأسد، والزعيم المتعالي عن المساءلة والمحاسبة، وإنهاء نظام الأسرة التي اختطفت الدولة خلال العقود الماضية، والقبول بعملية التحول السياسي، الذي يسمح بظهور قيادة سياسية جديدة يتم تمثيلها في هيئة حاكمة انتقالية تتمتع بدعم أطياف الشعب السوري جميعا.

* عضو الهيئة السياسية للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والناطق الرسمي باسمه