سوريا: ثلاث سنوات من الثورة.. وسنتان من الخذلان

TT

أكملت الثورة السورية، قبل أيام، ثلاث سنوات من عمرها، مع ملاحظة أن ثمة أوساطا في الغرب غيّرت تسميتها من «ثورة»، ولعلها الثورة الوحيدة في تاريخ العرب الحديث، إلى «حرب أهلية».

لمَ لا؟ «حرب أهلية» اسم مريح.. لأنه يبرّر التقاعس، بل الخذلان. لقد غدا مطلوبا تقزيم الحجم السياسي والأخلاقي للثورة السورية إلى «حرب أهلية». مطلوب على مستوى قيادة النظام.. ومطلوب كذلك إيرانيا وغربيا وروسيا وصينيا.

الجميع من مصلحتهم بعد ثلاث سنوات من الدماء والدموع والمعاناة الإنسانية الإشاحة بالوجوه بعيدا عن انتفاضة الشعب العفوية، التي ظلت سِلميّة نحو سنة في وجه القمع الفاشي الإجرامي، بحجة أنها «حرب أهلية». ففي الحروب الأهلية لا يصح الانحياز، إذ ليس فيها شاة وجزّار ولا ظالم ومظلوم ولا قاتل ومقتول. «الكلّ سواسية في سوريا» وفق منطق سيرغي لافروف. و«الحرب الأهلية السورية» مُعقّدة جدا كما قال لنا باراك أوباما وجون كيري وروبرت فورد، وهو ما علينا توقّعه أيضا من النجم الجديد في حلبة «اللافعل» الأميركية دانيال روبنشتاين!

بالأمس قرأت مقالة للدكتور جون شندلر، الخبير في شؤون مكافحة الإرهاب، أعجبني جدا عنوانها «لا أحد يعرف شيئا» حول جهل الجيل الشاب الذي يدير الشؤون الخارجية الأميركية – ومعظمهم دون سن الـ45 – بأساسيات السياسة والردع. عنوان المقالة اقتبسه شندلر من كتاب «مغامرات في مهنة السينما»، حول صناعة السينما، ألّفه وليم غولدمان عام 1983، وكان يكرّره غولدمان في إشارة إلى أنه على الرغم من الأموال الطائلة التي تُنفَق والساعات المُضنية التي تخصَّص لإنتاج فيلم، فإن أحدا من كبار هوليوود لا يستطيع أن يعرف مُسبقا ما إذا كان الفيلم سينجح أم يفشل. وبالتالي، فالمسألة كلها مسألة تخمين وافتراضات!

ومن ثَم، يقول شندلر إن الأزمة الأوكرانية اليوم تكشف تماما أن السياسة الخارجية الأميركية أيضا ليس لديها أدنى فكرة عن حصيلة تحركاتها وخياراتها. ويتابع: «قلت المرة تلو المرة إن سياسة أوباما الخارجية ضعيفة جدا، وإن الجهاز الذي يُديرها يعجّ بأشخاص مؤهلاتهم رائعة من الناحية النظرية لكنهم عاجزون عن التعامل مع أي مواجهة حقيقية مع موسكو.. والأسابيع الأخيرة أوضحت بصورة قاطعة أن البيت الأبيض يجهل تماما ما عليه فعله عندما تواجهه مشاكل صعبة يخلقها عتاة ميّالون بشكل روتيني لممارسة العنف الماكر والترهيب الفاقع». وبعدما أوضح شندلر أن هذا العيب لا يقتصر على حزب واحد أو إدارة بعينها، أردف «إن سببا من الأسباب هو أن الولايات المتحدة أنتجت جيلا كاملا من متمرّني السياسة الخارجية الذين لا يفهمون شيئا عن العالم الحقيقي من حولهم. إن المؤهلات المُبهرة التي نقرأها في السير الذاتية لهؤلاء الأربعينيين..لا تستطيع مقارعة عادة القتل بدم بارد التي تمرّس بها الكرملين، بقيادة قائده الأمني (فلاديمير) بوتين..»..

كلام جميل. ولعله يفسّر بصدق رد الفعل الباهت، بل الأخرق، الذي تبنّته واشنطن وتوابعها في الاتحاد الأوروبي إزاء خطوة جيو بولتيكية - استراتيجية في حسابات موسكو. بل إن في ظروف كهذه كان من الأفضل لواشنطن وحليفاتها ألا تفعل شيئا.. على أن تعلن إجراءات سخيفة وضعيفة لن تغيّر في المعادلة شيئا، ولن تردع بوتين – على الأرجح – عن مواصلة السير قدُما في إفشال أوكرانيا ككيان سياسي ذي سيادة.. مستثمرا نفوذ روسيا الكبير في شرقها وجنوبها.

ولكن لندع أوكرانيا جانبا، ونعد إلى الموضوع السوري.

كلام شندلر عن تواضع مستوى مخطّطي السياسة الخارجية الأميركية ومنفذّيها قد يكون صحيحا. إلا أن تعامل واشنطن مع سوريا مختلف. ففي سوريا، بجانب الموقف الأخرق هناك موقف مشبوه. ومن دون الحاجة للعودة إلى كلام أوباما لمجلة «ذي أتلانتيك» (مقابلة جيفري غولدبرغ) الذي أزعم أنه يشكل أهمّ «وثيقة» تكشف التوجّهات الحقيقية للرئيس الأميركي إزاء الشرق الأوسط، نلاحظ محاولة للتذاكي على جميع اللاعبين الإقليميين. وبالفعل، في مقالة ناقدة كتبها لي سميث أخيرا، في مجلة «الويكلي ستاندارد» اليمينية، اتهم الكاتب البيت الأبيض بشن حملة من «أنصاف الحقائق» Half-truths و«الأكاذيب» على امتداد ثلاث سنوات لتضليل الشعب الأميركي إزاء حقيقة موقفه من سوريا، وبالذات، التخفيف من واقع صعود إيران في الشرق الأوسط. وبعدما استخدم سميث عبارة «تاريخ الحرب الأهلية السورية أيضا سجلّ لأكاذيب البيت الأبيض»، أورد «سخرية» أوباما في مقابلة «ذي أتلانتيك» ممن يقولون «إن إيران ربحت في سوريا، التي كانت صديق إيران الوحيد في العالم العربي.. وهي اليوم خراب». وإضافته القول إن إيران «تنزف لإنفاقها مليارات الدولارات عليها.. وتابعها الأساسي حزب الله الذي كان يتمتّع بموقف مرتاح وقوي في لبنان، يجد نفسه اليوم عرضة لهجمات المتطرّفين السنّة». واستنتج «هذا الوضع ليس جيدا بالنسبة لإيران. إنهم أكبر الخاسرين».

أسوأ من كلام أوباما، قول سفيره المتقاعد روبرت فورد، الذي يعتبر نفسه «مُستعرِبا» في مقابلته الأخيرة في «الشرق الأوسط»، عن أن «تجربتنا في العراق علّمتنا أن الحلّ في سوريا ليس أميركيا..!!!». ذلك أن هذه عبارة تفتقر إلى المنطق أولا، وتستخفّ بعقول الناس ثانيا. وفيها يتبنّى فورد فكرة البيت الأبيض القائمة على أن التدخّل في العراق كان «خطأ لا يجوز تكراره»، لكنه يتجاهل الواقع السياسي والعسكري الذي أنتجه، ألا وهو تسليم العراق وسوريا ولبنان تسليم اليد لـ«الحرَس الثوري الإيراني».

هذا الواقع، إذا كانت واشنطن حقا ترفضه.. يستوجب تصحيح «الخطأ» بتغييره على الأرض. ولكن ما يدعو إلى الشك بصدق قول فورد، ومن خلفه مواقف البيت الأبيض، كما أكدت مقابلة «ذي أتلانتيك»، هو أن واشنطن تبني اليوم استراتيجيتها الإقليمية على أساس ديمومة مفاعيل ذلك «الخطأ» المزعوم لأنها لا تعتبر النظام الإيراني الحالي خصما.. بل شريكا إقليميا.

سوريا وثورتها – بل الهويّة العربية في المنطقة – تدفع اليوم ثمَن هذه «الشراكة».