بانتظار طاولة الحوار

TT

غداة نيل حكومة الرئيس تمام سلام ثقة البرلمان اللبناني، يصح التساؤل: ما جدوى ثقة النواب في حكومة لبنان إذا كانت ثقة اللبنانيين بالدولة كلها مفقودة؟

هذا لا يعني التقليل من أهمية تشكيل الحكومة اللبنانية. هو، بحد ذاته، إنجاز استغرق تحقيقه عشرة أشهر من «شد الحبال» خرج الجميع منها منهكين، وإهدار شهر كامل من عمرهم على خلاف انحصر عمليا في جملة واحدة من بيانها الوزاري، ومع ذلك استوجب الاستعانة بإمام النحو، سيبويه، لصياغتها بأفضل طريقة تبقيها عرضة للتأويل.

من الطبيعي ألا تحمل حكومة الرئيس سلام وزر تأكل هيبة الدولة منذ أن أصبح لبنان ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية. ولكن أن تتحول مؤسسته العسكرية إلى قوة فصل محلية بين فريقين لبنانيين متخاصمين سياسيا.. فظاهرة تثير تساؤلات تبدأ بالأبعاد الخفية للحرب الباردة - والمتصاعدة السخونة باطراد - بين فريقي المواجهة السياسية في لبنان، وتنتهي بدور الدولة المدنية المهدور عند كل منعطف سياسي وأمني.

لا جدال في أن دخول الجيش اللبناني إلى بلدة عرسال (السنية) في البقاع الشمالي نزع، ولو إلى حين، فتيل فتنة مذهبية أوحت إفرازاتها الفورية من قطع طرق وإحراق إطارات وإقفال شوارع، بأنها لا تحتاج إلى أكثر من «إعلان جهاد» من أي جهة حزبية كانت لكي تعيد اللبنانيين إلى زمن حربهم الأهلية الأخيرة.

قد ترد جذور تطورات ساحتي لبنان السياسية والأمنية، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه، إلى خلل نشأ عن تبدلات سياسية - وربما ديموغرافية أيضا - طرأت على معادلة التوازن السياسي القائم منذ اتفاق الطائف بين الشرائح الطائفية للمجتمع اللبناني، وخصوصا بين الطائفتين الأكثريتين، السنية والشيعية. وربما ساهم تراجع النفوذ المسيحي في لبنان في حصر التنافس الجديد على النفوذ بين أهل البيت الواحد، أي السنة والشيعة.

ولكن، رغم ما توحيه حالة «العلاقات الطائفية» من أنها ظاهرة لبنانية داخلية، فإن استحالة فصلها عن المؤثرات الإقليمية في المنطقة، تفاقم من حدة التوتر المذهبي في لبنان وتفرض عليه أبعادا سياسية يصعب على اللاعبين المحليين التحكم بمسارها.. وهذا ليس بالجديد، فتاريخ لبنان الحديث حافل، منذ عهد العثمانيين، بتوسل جهات خارجية عديدة واقعه المذهبي التعددي مدخلا عمليا لبسط نفوذها عليه، أو، على الأقل، لترجيح نفوذ الجهة الطائفية الأكثر خدمة لمصالحها الاستراتيجية في لبنان والمنطقة.

مؤسف أن لعبة الأمم على الساحة الطائفية اللبنانية لم تتبدل كثيرا في عصرنا. جلّ ما تبدل فيها هو هوية اللاعبين، فبعد أن كانوا يأتونها من الغرب، يأتونها اليوم من الشرق.. من هنا العبرة «القومية» – إن صح التعبير – لسياسة النأي بالنفس عن أحداث المنطقة وتحولاتها، فهي لا تمثل موقفا عرضيا من الأزمة السورية بقدر ما تشكل نطاق ضمان لإبقاء الخلافات اللبنانية، بما فيها المذهبية، في إطارها المحلي، مما قد يسهّل احتواءها، أو، على الأقل، الحد من تفاقمها. ومما يعزز من أهمية اعتماد هذه السياسة في المرحلة الراهنة أن اللبنانيين، المعتادين على الوساطات العربية في تسوية خلافاتهم الداخلية، محرومون حاليا من هذه الفرصة بحكم انشغال العالم العربي بقضايا داخلية وخارجية أكثر تأثيرا على وضعه ومستقبله.

باختصار، لبنان اليوم أمام مفترق طرق، إما أن يبقى دولة تتمتع بما يتيحه لها وضعها الجغرافي – السياسي من هامش سيادة واستقلال مقبولين، أو يتشرذم دويلات تتحول إلى موطئ قدم للقوى الإقليمية الداعمة لها.

هذا هو، في نهاية المطاف، القرار المطلوب من طاولة الحوار التي يدعو لعقدها الرئيس اللبناني ميشال سليمان بنهاية الشهر الحالي، والتي يأمل العديد من اللبنانيين الذين فجعوا بجلسات الحوار السابقة، ألا يحجز مقعد فيها لإمام النحو وحجة العرب، سيبويه، فتخرج بتوصيات لا يفك طلاسمها إلا الضالعون في علم النحو والبيان.