طرابلس دخلت النفق المظلم

TT

بمقدورك في لبنان أن تهاجم رئيس الجمهورية، وجل ما يستطيعه هو أن يسوقك إلى المحكمة. لكنك ستجد نفسك عاجزا عن انتقاد «قائد محور» مسلح، في طرابلس.

لذلك بات من ضرورات المرحلة، عندما تتحدث إلى نواب، رجال دين، تجار، أو مسؤولين سياسيين كبار، لسؤالهم عما يحدث في طرابلس، أن يطلبوا إليك، عند نشر المعلومات، التحفظ على ذكر أسمائهم. العبارة ذاتها صارت تتردد على ألسنتهم: «لا أحد يستطيع حمايتنا، هؤلاء قادرون على إيذائنا». من بين المسلحين، من يشتم ضباطا، ومن يتوعد نوابا، ويستقوي على مواطنين مساكين. هناك شكوى عارمة من أصحاب محال تجارية، يجبرون على دفع أموال، ومثلهم سائقو سيارات أجرة، مقابل سلامة رؤوسهم وعدم المس بممتلكاتهم. الحال تذهب إلى تفلت غير مسبوق في طرابلس. الحرب الأهلية لم تكن بهذا السوء في بعض جوانبها.

الجولة العشرون من الاشتباكات بين باب التبانة وجبل محسن في الضاحية الشمالية للمدينة كشفت عن عظائم، وفجرت ما كان لا يزال كامنا تحت السطح. نواب، وزراء، ورجال دين، كانوا حتى الأمس القريب مسموعي الكلمة، يقولونها علنا: «ما باليد حيلة. المسلحون لا يأتمرون بأحد».

قرر مسلحون من باب التبانة، وهذا أخطر التحولات الدراماتيكية في الأيام الأخيرة، أن يضيفوا إلى جبهة جبل محسن، جبهة أخرى فتحوها مكشوفة، هذه المرة، مع الجيش اللبناني. أكثر من 20 هجوما، بالقذائف والقنابل والرشاشات نفذت خلال أيام معدودات، ضد الجيش، الذي سقط منه قتلى وجرحى. من الذي يريد الفتك بالجيش، آخر ما تبقى من لبنان؟ ومن يريد هدم آخر مدماك للدولة اللبنانية؟ ومن يمول كل هذا الخراب؟

الجميع بات يدرك أن الوضع يقترب من الانفجار الكبير. لم تعد استراحة المحاربين بين الجولة والأخرى، تكفي. لم تعد الهدنة بحد ذاتها ممكنة بالمعنى الذي كان معتمدا. صار ثمة مجموعات مسلحة لها أهداف جديدة، وغايات تتكشف. دخلت طرابلس النفق الذي يخشى أن يكون مظلما جدا. فإما أن يصبح الأمر للمسلحين بالكامل وإما أن يعطى الجيش غطاء علنيا بكلمة جامعة، من السياسيين، كل السياسيين هذه المرة، لحسم الأمر. والحلان للأسف، كلاهما علقمي. اللغة المزدوجة لم تعد تنفع أحدا. الكلام المبطن لا يطعم فقراء المدينة خبزا، ولا يشتري دواء لأطفالهم.

لا يحق للسياسيين، أن يتصرفوا وكأنهم أكثر عجزا من المواطنين الصغار، غير مقبول من نائب أو وزير أن يبقى متفرجا على مدينة بأكملها تؤخذ رهينة لاقتتال عبثي، في العمق، لا معنى سياسيا لها ولا استراتيجيا أيضا. كل قصة طرابلس وضجيجها، صارت، بمرور الوقت، مجرد ارتزاق رخيص لحفنة من الناس تريد جني المكاسب، وشراء سيارات فخمة، وشقق فارهة. هذا يقوله أهالي التبانة، ويعترف به بعض المسلحين الممتعضين. أي كلام آخر، هو اختلاق لأعذار واهية، ومواراة للحقيقة، وتضليل للمواطنين.

طرابلس ليست مدينة حدودية مع سوريا، هي ليست عرسال ولا وادي خالد، كي تربط، على هذا النحو المفتعل، بالثورة السورية. طرابلس أيضا لم تعد مدينة مختلطة، كي تكون الحجة طائفية. صارت طرابلس مدينة سنية، وصار جبل محسن معزولا على هامشها. ربما أن طرابلس لم تعد مدينة أصلا بعد أن هجرها حتى أهلها، وها هي متاجرها تفلس واحدا بعد الآخر، وجامعاتها مغلقة، ومدارسها تعصف بها الريح. صارت العاصمة الثانية هامشا خربا لا مكان فيه للحياة، وكل أمكنتها موهوبة للموت المجاني.

لم تدم الحرب العالمية الأولى سوى أربع سنوات، خلالها تغير وجه العالم، انهارت إمبراطوريات عظمى حكمت مديدا وولدت دول جديدة أخرى. والحرب العالمية الثانية انتهت بست سنوات فقط، أرست بعد ذلك أحلافا ورسمت خرائط على طول الأرض وعرضها. في طرابلس يتقاتل شارعان ونصف الشارع منذ سبع سنوات كاملة، دون أن يتمكن أي طرف من أن يحقق أي شيء، أو يتقدم أي خطوة. جل الحصاد، مئات الموتى والجرحى، من بين الأكثر عوزا لا في لبنان وحده، وإنما في المنطقة كلها، ودمار وخراب وحرائق، وتسميم لحياة كل سكان المدينة وشل لحركتها.

هل في العالم أكثر عبثية وحمقا من هذا المشهد السوريالي؟ الجميع يعلم أنه لا يمكن للنظام السوري أن يتغير من باب التبانة، هذا المكان البائس الذي لا يملك لنفسه غير الانتحار. ومعلوم أيضا أن جبل محسن الذي بالكاد يشبه حيا صغيرا معدما في سوريا، لا يستطيع أن يمد بعمر بشار الأسد، نصف ثانية، على الكرسي. هراء كل هذه الادعاءات المضللة، وهراء أكبر منه القول إن السياسيين عاجزون عن إيجاد حل. المصلحة الضيقة والرخيصة عند الساسة، أدعى للمراعاة من دم الطفل بكر رضوان أو الطفلة فاطمة العشي وغيرهما. هؤلاء بالنسبة لهم أرقام عابرة على عداد الموت.

طرابلس ليست ستالينغراد، وما يحدث فيها ليس حربا عالمية ثالثة، ولبنان علنيا ليس في حرب أهلية، ومواكب تشييع الموتى الجماعية ليست مقبولة. هذا ليس عجزا، إنها انتهازية سياسية، ولا مبالاة، ومراهنة على أن المواطنين مجموعة من المغفلين.

المراوحة الدموية في طرابلس على النحو الذي تسير عليه، وترك الجيش يتورط مكبلا ووحيدا فيما زرعه السياسيون من بغضاء وطائفية وحقد وتحريض، سيجر الجميع إلى كارثة بحجم وطن. والاستدراك اليوم أجدى من عض الأصابع غدا، حيث لا ينفع الندم، هذا إن بقيت أصابع!