فكر الإسلام السياسي

TT

أبديت، قبل عدة سنوات، ملاحظة أحسب أنها لا تزال صالحة: فكر الإسلام السياسي (في تجلياته المتنوعة) قليل الغناء من الناحية المعرفية، هزيل من الناحية النظرية. وفي هذه الملاحظة جواب عن سؤال آخر في الواقع: لماذا كان اهتمام الفلاسفة ومؤرخي الفكر بالإسلام السياسي اهتماما قليلا - بل إنه يكاد يكون منعدما - في حين اهتم علماء السياسة والمنشغلون بعلم الاجتماع اهتماما شديدا، بل وربما كانت هذه الفئات، من الدارسين الذين نشير إليهم، هي الجهات العلمية التي تنكب على دراسته والتفكير فيه دون غيرها؟ وقد كان الجواب عندي (بل إنه لا يزال حتى اليوم لم يتغير، إن لم أقل إنني أزداد اقتناعا به): إن الأمر يتعلق في الإسلام السياسي بـ«ظاهرة» أكثر مما هو يرجع إلى الفكر والتفكير - ظاهرة تقل فيها الحاجة إلى النظرية والتفكير، أو لنقل إذا شئنا: إن مجال النظرية والتفكير يضيق فالقليل منه يكون كافيا، بل إن النجاعة التي يبتغيها دعاة الإسلام السياسي تكبر ويزداد حجمها كلما قل نصيب الفكر والنظر والتفكير. وحيث إنني أجد السؤال لا يزال حتى اليوم مطروحا (من حيث إن قضية الإسلام السياسي، ظاهرة ووجود معا) لا يزال سؤالا مطروحا، فإنني أود في حديثي اليوم أن أتلمس بعض جواب يتصل بالسؤالين اللذين طرحتهما أعلاه.

ما الشأن الآن في الفكر بالنسبة للإسلام السياسي وقد تناولنا الإنتاج النظري لزعمائه ودعاته الكبار، من مختلف المشارب والاتجاهات؟

كل تيارات الإسلام السياسي، بدءا من الإخوان المسلمين ممثلا في فكر الزعيم الروحي للحركة ومنظّرها الأول حسن البنا، وانتهاء بتيارات الجهاديين والسلفيين وجماعات التكفير والهجرة، ومرورا بالداعية الباكستاني أبي الأعلى المودودي، تلتقي عند فكرتين تتقاطعان وتتكاملان؛ الفكرة الأولى هي أن حال المسلمين اليوم يستوجب العمل على إقامة صرح الدولة الإسلامية الواحدة أو العظمى التي يجتمع حولها المسلمون جميعا، من كل أنحاء العالم. والثانية أن الصورة الوحيدة لهذه الدولة المأمولة هي «دولة الخلافة»، أو دولة «الخلافة الثانية»، أو «استعادة دولة الخلافة». وأيا كان النوع المختار من الأنواع الثلاثة المذكورة، فإنه يتحتم التسليم بأمرين اثنين؛ الأول: هو أن الخلافة ركن أصيل من أركان الدين، بل إن الخلافة (عند دعاة الإسلام السياسي على اختلاف مذاهبهم، وتباينهم بين الميل إلى الشدة والعنف أو إلى الحوار والسلم) من شروط تحقق الدين الإسلامي. والأمر الثاني - وهو صريح واضح عند المتشددين - هو أنه لا بأس من اللجوء إلى العنف إذا كان الأمر يستوجب ذلك، بل إن العنف هو السبيل الوحيد الممكن (والتكفيريون والسلفيون الجهاديون، بتياراتهم الكثيرة كلها، يذهبون هذا المذهب وهم يسمونه جهادا). هذا «الجهاد» هو «الفريضة الغائبة» التي تلزم استعادتها وإحياؤها عند جماعات التكفيريين والجهاديين.

يعلم المشتغلون بالفكر الإسلامي عامة، وبالفكر السياسي الإسلامي خاصة، أنه يمكن الكلام في الفكر السياسي في الإسلام عن مرحلتين اثنتين كبيرتين، لكل منهما سمات تتصف بها وخصائص تميزها. وحيث إنه ليس من غرضنا أن نتوسع في القول في هذه المسألة، فضلا عن كون المقام لا يسمح به بل ولا يقتضيه، فنحن نقول إجمالا إن المرحلة الأولى، المقصودة بالإشارة، هي الفكر الإسلامي في مراحله الأولى، مراحل نشأته وتكونه في القرون الهجرية الأولى. والمرحلة الثانية، أبعد منها فهي التي ننعتها في المعتاد بعصر النهضة أو اليقظة العربية، هي تلك التي أعقبت حقبة طويلة من الركود لا نزال نتواضع على نعتها بعصور الانحطاط. والسؤال الذي يقتضي حديثنا عن فكر الإسلام السياسي، طرحه هو التالي: إلى أي واحدة من المرحلتين المذكورتين يمكن لنا أن ننسب فكر جماعات الإسلام السياسي؟ هل نقول عنه إنه يمت إلى فكر عصر النهضة بصلة، بالنظر إلى القرب الزمني النسبي، أم نقول، بالأحرى، إنه يرتبط بالفكر السياسي الإسلامي في مراحل النشأة الأولى بصلات كثيرة طالما يطرح قضية الخلافة (أو الخلافة الراشدة، الواجب إحياؤها من جديد من أجل النهوض بالإسلام والمسلمين)؟

لا يجد الدارس والمهتم أمامهما سوى سبيل واحد من أجل الإجابة الشافية عن السؤال المطروح: إنه القيام بتصفح أو استعراض مجمل الأفكار والموجهات الأساسية في فكر كل من المرحلتين المشار إليهما. ولما كان من الصعب علينا القيام بذلك لداعي السببين اللذين ذكرنا أعلاه، وهما يرجعان إلى أن المقام لا يسمح بذلك، فنحن أمام ضرورة الاكتفاء بالخلاصات العامة التي توجد حيثياتها ودواعيها في غير هذا المكان وبعيدا عن مقام هذا الحديث وطبيعته. نقوم بذلك في فقرتين موجزتين غاية الإيجاز.

إذا ما نظرنا في نتاج المرحلة الأولى (ولنقل في الحديث عنها إنها مرحلة الفكر السياسي الإسلامي في عصره الكلاسيكي)، فنحن نجد أن الفكرة السياسية جعلت مدارا لها مسألة الخلافة (= الإمامة العظمى أو الإمامة فقط). تناول هذه المسألة - كل من زاوية نظر مخالفة الآخر وحسب منهج مغاير، ومقتضيات مختلفة من الناحية النوعية - كلٌّ من المتكلمين (أو علماء أصول الدين)، ورجال أصول الفقه (علماء الأصول أو الأصوليون - في المعنى الدقيق للكلمة)، والمنسبون إلى الحكمة، والمفكرون المؤرخون (والمثال الأكبر هو ابن خلدون). نستعرض أقوالهم جميعا، على اختلاف الرؤى والمناهج، فلا نجد واحدا منهم - من الذين ينتمون إلى دائرة أهل السنة إجمالا - يقول إن الخلافة ركن من أركان الدين، بل إنهم يشتركون في التحفظ على القول إنها من المهمات في الدين. ولا شيء ألبتة يجعل صلة، من أي نوع كانت، بين مفكري الإسلام في الحقبة الأولى ودعاة الإسلام السياسي ومفكريه من كل الأصناف.

كانت المسألة السياسية قضية محورية في الفكر العربي الإسلامي المعاصر (الطهطاوي، الكواكبي، محمد عبده.... والقائمة طويلة)، وهم جميعهم قد اتفقوا على أن الخلافة الراشدة، بل الخلافة مطلقا، لا مكان لها ولا إمكان لها في الحياة المعاصرة للإسلام والمسلمين. وإنما سبيل الإصلاح آخر، ومن مقتضياته التقرير بأن السياسة تمت إلى مجال التدبير البشري. وإذن، فهم يقفون من دعاوى الإسلام السياسي على الطرف المقابل النقيض. فأما معرفة أسباب النشأة والانتشار في فكر جماعات الإسلام السياسي، وأما تبين مناحي الهزال والتهافت في ذلك الفكر، فذاك حديث آخر.