هل من «طرابلس اقتصادية»؟

TT

من مفارقات الدهر في هذا المنعطف الدقيق في وضع لبنان، أن تطغى أولويات المواطن اللبناني العادي على أولويات ساسته... بمجرد أن أزيح عن كاهله، ولو مؤقتا، هاجس «الأرق القومي» الأمني.

لم تكن مجرد صدفة أن تشهد بيروت، مع انعقاد أول جلسة تشريعية للبرلمان اللبناني بعد غياب غير قصير، «انتفاضة» نقابية وعمالية وحتى نسائية، استغلت «الهدنة الأمنية» الهشة لإبلاغ من يعنيهم الأمر أن من لم يمت من اللبنانيين بالتفجيرات الإرهابية... يموت بالأزمة المعيشية.

أحداث الأسبوع الماضي في لبنان أظهرت أن اللبناني العادي لا يعتبر الاستحقاق الدستوري الأبرز في بلاده (أي انتخاب رئيس جديد للجمهورية)، ولا التطورات الإقليمية المؤثرة على وضعه الداخلي، بأهمية لقمة عيشه بعد أن ردها وضع أمنه المضطرب إلى المرتبة الأخيرة من اهتمامات الدولة.

دقة الحالة المعيشية في لبنان لا تحتاج إلى تعريف. يكفي أن تتضافر في الشكوى منها كل القطاعات المهنية، ابتداء بالعمال المياومين، مرورا بالموظفين والهيئات التعليمية، وانتهاء بالمراقبين الجويين في مطار بيروت الدولي.

وإذا كان من الإجحاف تحميل حكومة سلام مسؤولية أعباء اقتصادية تراكمية تزايدت تعقيداتها على مدى عقود، لا سنوات فحسب، فمن الصعب أيضا إعفاء بعض الأحزاب والتيارات اللبنانية من مسؤولية تفاقمها عبر تقديمها أولوياتها السياسية، الداخلية والإقليمية، على أولويات اللبنانيين العاديين: الوضع المعيشي، أولا.. والتعايشي ثانيا... والأمني ثالثا.

في معظم الدول المعاصرة، تساهم الدولة في حمل الهموم المعيشية اليومية لمواطنيها وتعينهم على تحملها (وإن من جيوبهم الخاصة في نهاية المطاف)، عبر تقديمات اجتماعية وصحية وتعليمية تمولها بعائدات ضرائب مناسبة.

في لبنان فقط، يحمل المواطن «هم» الدولة بحيث أصبحت علاقته مع دولته فريدة من نوعها في مفهوم «العقد الاجتماعي» بين الدول والأفراد... فلا غرابة أن ينظر الكثير من اللبنانيين إلى دولتهم وكأنها هي، وبيروقراطيتها: «ضريبة كبرى» مفروضة عليهم.

قد يعذر بعض اللبنانيين في افتقادهم الثقة بدولتهم. وإذا كان «الأمن» يتحمل قسطا وافرا من حالة الشلل الإداري والاقتصادي في لبنان، فمن الصعب إعفاء الهدر والفساد والتقصير في جباية الضرائب والرسوم من ارتفاع مديونية الدولة بحيث أصبح وضع الخزينة العامة عائقا جديا في وجه تحقيق المطالب الملحة بتصحيح الأجور.

موازنات السنوات الماضية أظهرت أن الدولة لا تستطيع ردم فجوة العجز المالي من دخلها الصافي من الضرائب والرسوم (حتى في حال جبايتها بجدية)، بينما يستحيل على المواطن اللبناني العادي تغطيتها في ظل استمرار الواقع «المتواضع» للدخل القومي. وإذا كانت هذه العقدة حملت البعض على المطالبة برهن ما يستتبعه تصحيح الأجور من عجز مالي متزايد بما ستجنيه الخزينة، مستقبلا، من عائدات تتأتى من استثمار احتياطي لبنان البحري من النفط والغاز، فلا حاجة للتذكير بأن سياسة «بيع جلد الدب قبل اصطياده» لا تحمد عقباها في ظل المناخين الداخلي والإقليمي الضاغطين على اقتصاد لبنان.

على المدى القريب، وربما المتوسط، تبدو صورة لبنان المعيشية والاجتماعية قاتمة أكثر مما هي واعدة... ما لم تتحقق تجربة «طرابلس اقتصادية»، أي أن تتفق كل مكونات لبنان السياسية - كما فعلت في تغطيتها الخطة الأمنية في طرابلس - على إعادة ترتيب أولوياتها بحيث يتصدر الشأن الاقتصادي ما عداه من تطلعات.

رغم أن تحقيق تغطية من هذا النوع لخطة إنماء شاملة تبدو بمثابة «مهمة مستحيلة» في وضع لبنان الراهن، فإن بارقة الأمل التي انطلقت من تطبيق الخطة الأمنية في طرابلس تسمح بتغذية الآمال بعودة «الدولة» إلى لبنان كلما اشتدت الحاجة إليها وبدت ضرورية... ومن تمكن من تأمين تغطية سياسية واسعة لخطة «أمن بالتوازي» بعد سنوات من ممارسة «الأمن بالتراضي» - ولو في نطاق محدود بطرابلس – لن يعجز عن تأمين تغطية سياسية مماثلة لخطة اقتصادية ومعيشية هذه المرة.