نصائح قديمة مرفوضة.. و«الخيارات» الفلسطينية في الاتجاه الصحيح

TT

بقي لمهلة التسعة شهور من المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، بإشراف أميركي، تسعة عشر يوما؛ فالمفترض أن تنتهي في التاسع والعشرين من أبريل (نيسان) دون أن تحقق أي شيء، والمفترض أن تكون نهاية المطاف لمحاولة كانت جادة بالفعل إن لم يستطع وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي أبدى إصرارا خلال مثوله أمام لجنة العلاقات الخارجية في «الكونغرس» على مواصلة الولايات المتحدة لرعاية عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي قال عنها إنها مهمة، بل في غاية الأهمية، لأميركا وللمصالح الأميركية.

وبالطبع فإن الأميركيين، مثلهم مثل الفلسطينيين ومثل الإسرائيليين، حرصوا على استمرار العلاقات بين هذه الأطراف الثلاثة، وحرصوا على عقد اجتماعات القدس برعاية مارتن إنديك لتجنب إعطاء انطباع بأن مفاوضات التسعة شهور قد انتهت إلى الفشل، وأن الولايات المتحدة قد تخرج من هذه الدائرة نهائيا وتترك لمنظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية تبادل الكلمات الموجبة، وتترك الشرق الأوسط تحت رحمة التطرف الذي تقوده إيران، والذي تريده روسيا لتسديد حسابات خاصة تتعلق بانتعاش الحرب الباردة في ضوء تفاقم الأزمة السورية وتطورات الأزمة المستجدة في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا.

وحقيقة أنه لا منظمة التحرير ولا الحكومة الإسرائيلية تريدان لهذه المفاوضات أن تتوقف، ولكن المشكلة تكمن في أن بنيامين نتنياهو يتمسك بشروط تعجيزية لا يستطيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) وبخاصة أنه لم يضمن ولو بالحدود الدنيا موافقة الإسرائيليين، بضغط أميركي جدي، قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 وأن تكون القدس الشرقية هي عاصمة هذه الدولة، وبخاصة أنه لا يمكن أن يوافق ولا يستطيع أن يوافق على الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، طالما أن العرب إنْ من خلال «جامعتهم» أو من خلال «بيان» قمة الكويت العربية الأخيرة قد رفضوا الاعتراف بهذه الدولة العبرية.

والمشكلة التي غدت تقف في طريق أي حل ممكن جدي هي أن هذه الحكومة الإسرائيلية التي يقودها بنيامين نتنياهو، الذي يعتبر أكثر تطرفا حتى من مناحيم بيغن ومن إسحق شامير وأيضا من أرييل شارون، هي محصلة تحول إسرائيلي نحو اليمين والتطرف كانت بداياته اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1995 بسبب توقيعه على اتفاقية وادي عربة التي اعتبرها الأكثر تشددا ويمينية تفريطا في أرض إسرائيل التاريخية «الموعودة»!!

إن هذه هي حقيقة الأمر، ولذلك فإنه إن لم يتخذ الأميركيون موقفا حاسما وحازما وملزما للإسرائيليين بإنهاء هذا الصراع المزمن وتحقيق السلام الفعلي المنشود في الشرق الأوسط فإن المنطقة كلها سوف تدخل مرحلة جديدة من العنف والإرهاب المدمرين، وهنا فإنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هناك من بين العرب ومن بين الفلسطينيين من بات يطرح ذلك الحل العدمي القديم الذي يقول إنه على القيادة الفلسطينية أن تحل نفسها وأن تتخلى عن السلطة الوطنية وأن تخرج إلى الخارج وتعود للكفاح المسلح والصراع الطويل الأمد.

وتقول وجهة نظر هؤلاء، الذين من بينهم بعض كبار المسؤولين العرب، إنه يجب التخلي عن عملية السلام من أولها إلى آخرها، وإنه يجب تحميل الإسرائيليين مسؤولية احتلالهم للضفة الغربية ماليا وسياسيا واجتماعيا، وإنه يجب ألا يتحمل لا العرب ولا الفلسطينيون هذه المسؤولية ما دام أن الأرض الفلسطينية في حقيقة الأمر لا تزال محتلة، وما دام أنه لا سلام يلوح في الأفق على الإطلاق.

وتجب الإشارة هنا إلى أن «حماس» التي تعتبر نفسها جزءا من «فسطاط الممانعة والمقاومة» هي مع هذا الرأي، وذلك لأنها بالأساس لا تريد السلطة الوطنية طالما أنها سلطة حركة «فتح» ومعها بعض التنظيمات اليسارية.

لقد كان مثل الكلام العدمي قد قيل للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) مرارا وتكرارا، لكنه بالطبع رفضه رفضا قاطعا ولم يلتفت إليه أو يأخذه على أنه فكرة جدية وحقيقية. إن (أبو مازن) مثله مثل رفيق دربه ومثل كل القادة الفلسطينيين، إن في حركة «فتح» وإن في منظمة التحرير والسلطة، يعتبر أن ما تحقق استنادا إلى اتفاقات أوسلو يعتبر إنجازا، وأنه من البله وسوء التقدير العودة إلى نقطة الصفر والتفريط في إنجازات دفع ثمنها الشعب قوافل من الشهداء الأبرار، فهناك الآن اعتراف من قبل الأمم المتحدة بدولة فلسطينية تحت الاحتلال، وهناك الآن تعاطف دولي مع الشعب الفلسطيني غير مسبوق.. ثم هناك مؤسسات لا يجوز التفريط فيها أو التخلي عنها.

كان رفع العلم الفلسطيني فوق «أسلاك» الكهرباء قبل اتفاقيات أوسلو وقيام السلطة الوطنية، يكلف عشرات الشهداء ومئات المعتقلين، وكان الإسرائيليون يتمسكون بتلك المقولة السخيفة القائلة: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». ولهذا قد قطعت المسيرة الفلسطينية كل هذه المسافات الطويلة، وحقق الشعب الفلسطيني كل هذه الإنجازات العظيمة، فإنه لا يمكن وصف دعوة حل السلطة الوطنية إلا بأنها خدمة لإسرائيل وأنها استسلام مجاني وأن من يقف وراءها إما أنه لا يعرف قوانين الصراع عندما تكون بكل هذا الحجم وبكل هذه التعقيدات، أو أنه، والعياذ بالله، مجند لخدمة إسرائيل والصهيونية العالمية وهو لا يعرف.

لقد بادر محمود عباس (أبو مازن) بعد الشعور بانسداد الأفق أمام المفاوضات والعملية السلمية إلى إطلاق تصريحات لا يمكن أن تصدر إلا عن قائد تاريخي بات يعرف ويدرك أين أصبحت تقف قضية شعبه.. لقد أكد في هذه التصريحات تمسكه وتمسك الشعب الفلسطيني بالسلام وهو استبعد العودة إلى الكفاح المسلح، وشدد على استبداله بالكفاح الشعبي الذي يواجه بتفهم عالمي ودولي إنْ على مستوى الشعوب وإنْ على مستوى الدول، فهذه الطريقة «الغاندية» و«المانديلية» أصبحت أمضى من الأسلحة وأشد تأثيرا من الرصاص والقنابل، ويقينا أن هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة تتمنى أن يرتكب الفلسطينيون الخطأ التاريخي وأن يبادروا إلى حل أطرهم الرسمية القائمة وينزلوا إلى تحت الأرض أو يغادروا وطنهم ويعلنوا العودة إلى الثورة المسلحة.

الآن وسواء أثمرت الجهود الأميركية المتواصلة وتم استئناف المفاوضات بالشروط الفلسطينية كلها أو بعضها أم لا، فإن ما يحتاجه الشعب الفلسطيني ليس المزيد من الاقتراحات العدمية المحبطة والمربكة، وإنما أن يوفر العرب الدعم المالي.. والمزيد من الدعم المالي الذي يعزز صمود القيادة الفلسطينية ويحميها من أن تقع فريسة للضغوط الأميركية والإسرائيلية... فالمسافة إلى استحقاق الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية باتت قصيرة، والمطلوب من الأمة العربية لم يعد أكثر من المواقف الواقعية الصحيحة وتوفير ما يهدد به الأميركيون الفلسطينيين، وما يهدد به بنيامين نتنياهو (أبو مازن) والسلطة الوطنية.

لا أحد يطلب من العرب جيوشا جرارة تزحف نحو فلسطين، فالأمور تغيرت كثيرا عما كان عليه الوضع في ستينات وسبعينات القرن الماضي، فالمطلوب أصبح يقتصر على الدعم المالي الذي يحمي الشعب الفلسطيني ويحمي القيادة الفلسطينية من الضغوط التي يلوح بها الأميركيون ويهدد بها الإسرائيليون، وأصبح يقتصر أيضا على حماية «الخيارات» التي رد بها الفلسطينيون على تحديات بنيامين نتنياهو وحكومته وفي مقدمتها خيار الانتساب إلى الهيئات والاتفاقيات الدولية.

إن أكبر خطأ يرتكبه العرب هو التخلي عن الشعب الفلسطيني في هذا المنعطف الخطير الذي تمر به قضيته، وهو المشاركة في الضغط على الرئيس محمود عباس (أبو مازن) للتراجع عن خيار الانضمام إلى الهيئات والاتفاقيات الدولية، وهو أيضا، وهذه هي أم الكبار، التفكير حتى مجرد التفكير في دفع الفلسطينيين للاعتراف بإسرائيل دولة يهودية.