العدل مفهوم محوري في فكر النهضة

TT

أقصد بفكر النهضة، في حديثي هذا، جملة الإنتاج النظري في الفكر العربي المعاصر. يقوم هناك اختلاف في دلالة المعاصر في تاريخ الفكر، بيد أن التقليد العلمي الرصين يجعل الحقبة المعاصرة تمتد تراجعا إلى القريب فتشمل القرن التاسع عشر، فبدايتها الفعلية قيام الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر. يتحرج البعض من جعل نعت المعاصر يتصل بما كان ينتسب إلى زمن ماضٍ، فهم يذهبون إلى أن الأنسب أن تنعت الحقبة التي أشير إليها بالتاريخ الحديث. غير أن هذا القول ليس مما يقبله تاريخ العلوم، وليس مما يتوافق مع التطورات التاريخية والسياسية التي عرفتها الإنسانية منذ عصر النهضة الأوروبي، أي منذ مطلع القرن السادس عشر. وإذن، فإن الفكر العربي المعاصر يشمل، على النحو الذي ذكرت، كتابات الرحالين العرب إلى أوروبا (منذ رحلة الشيخ رفاعة الطهطاوي إليها في بداية ثلاثينات القرن ما قبل الماضي)، ويشمل كتابات المفكرين الإصلاحيين وغير الإصلاحيين في الفترة التي تمتد من ستينات القرن التاسع عشر إلى ستينات القرن الماضي، بل إنها تجاوز هذا التحديد أحيانا كثيرة.

لفكر هذه الحقبة الزمنية، مع اختلاف المراحل التي تقبل الحقبة التقسيم فيها إلى مراحل، انشغالات ترجع في مجملها إلى الانشغال بحال التعارض بين ما عليه الغرب الأوروبي (ثم الأميركي عند البعض في مراحل لاحقة) من تقدم في مجالات العلم والتكنولوجيا، وفي أسباب القوة المادية كلها، وكذا في مجالات الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية (عند البعض من مفكري الحقبة موضوع النظر) وبين حال التأخر التي يغرق فيها العرب والمسلمون. تأخر سبق مني القول فيه إنه تأخر، أو بالأحرى وعي بالتأخر، بالنسبة لهذا الغرب - وهذا من جهة أولى - وتأخر بالنسبة لما كان عليه المسلمون أنفسهم في العصر الذي يجمل نعته بالعصر الذهبي أو الإسلامي المرجعي القمين بنا الأخذ به، وهذا من جهة ثانية. اجتهد مفكرو الفكر العربي المعاصر (كما أعرف الحقبة المعاصرة) في تشخيص أسباب التأخر، وكذا في استكناه السر في حصول التقدم عند الغرب وشعوبه. اشتهرت نماذج التشخيص، واختلفت الأجوبة المقدمة في دائرة الفكر العربي المعاصر مما يكون من شأن الخوض فيه أن يصرفنا عن موضوع حديثنا اليوم، بيد أننا نجد أنها ظلت دوما تلامس المسألة السياسية بكيفية أو أخرى. لا ينتبه الرحالة العربي المعاصر إلى أوروبا إلى مظاهر التقدم المادي فحسب، وإن كان يوليه في مدونات رحلته حظا غير يسير، ولكنه يوجه الانتباه إلى مظاهر التقدم والقوة في المناحي المعنوية. ونحن، على سبيل المثال لا الحصر، إذ نقرأ الطهطاوي أو الصفار (وقد زار فرنسا بدوره - ضمن بعثة مغربية سفارية - بعد رحلة الشيخ المصري لها بعقد ونصف العقد من الزمان) نجد كلا منهما ينوه بتفشي العدل في صفوف الجيش، فالارتقاء من رتبة عسكرية إلى أخرى أعلى منها لا يخضع إلا لشروط الكفاءة وحدها، فلا مكان فيه لمحاباة أو مراعاة لدواعي القرابة أو الولاء مثلا. والطهطاوي يرجع السبب في الثورة التي كان شاهدا عليها في سنة 1830 إلى نقض ملك فرنسا لما أمضاه من عهد مع الشعب الفرنسي. فإذا تركنا الرحالين وتوجهنا صوب مشاهير مفكري الحقبة التي ننعتها بعصر النهضة حينا، وبالفكر العربي المعاصر حينا آخر، نجد المعنى ذاته مع اختلاف في كيفية النظر وفي الصيغ التعبيرية. نذكر تمثيلا لا حصرا، مفكرين اثنين من رجال المرحلة، وكلاهما معروف مشهور، غير أننا نغفل أحيانا عن الفكرة المحورية في تشخيص داء التأخر (ولننعته مرة أخرى بالتأخر المزدوج)، وكذا في تقديم الدواء أو التدليل على سبيل الخروج من التأخر أو على المقدمة الضرورية الأساسية في ذلك. المفكر الأول الذي أذكر - والعبرة هنا بالترتيب الزمني لظهور كل منهما وليس بداعي الأفضلية - هو رجل الدولة التونسي خير الدين التونسي، الشهير بكتابه «أقوم المسالك في تدبير أحوال الممالك». يعلم الدارسون أن اسم الرجل يرتبط في الأذهان بقضية «الترتيبات»، والترتيبات عنده هي جملة النظم الإدارية والسياسية التي كان يرى أن الغرب الأوروبي يأخذ بها منذ القرن السابع عشر بالنسبة لإنجلترا، وابتداء من قيام الثورة الفرنسية بالنسبة للبعض الآخر (وتلك «التنظيمات» تعني مسؤولية الملك أو رئيس الجمهورية أمام المجالس الشعبية المنتخبة، وتعني الحرص على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتعني اعتبار القانون سلطة عليا لا تعلو عليها سلطة أخرى، فلا يرتفع فوق القانون صوت ولا مجال بالتالي لمحاباة أو استثناء). وإذن، فإن المعنى العميق للتنظيمات هو قيام العدل وتحققه.

وأما المفكر الآخر الذي أذكره (من قبيل التمثيل لا الحصر كما نبهت إلى ذلك) فهو السوري عبد الرحمن الكواكبي، صاحب المؤلف الواسع الشهرة «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». يعدد الرجل من صور الاستبداد في الحياة العربية أصنافا كثيرة؛ يتساءل عن السبب الذي يعزى إليه أكثر من غيره ما سقط فيه العرب في العصر الطويل الذي نتواضع على نعته بعصر الانحطاط فيجد أنه يكمن في الاستبداد. وليس الاستبداد في عمقه وحقيقته سوى الانصراف عن سبيل العدل، بل إن الاستبداد في جوهره تجسيد لنقيض العدل وهو الظلم. ينظر صوب الغرب الأوروبي فينتهي بدوره إلى القول إن سبيل التقدم عند الأمم الأخرى يكمن في العدل، ويوجه نظره صوب العصر الإسلامي «الذهبي» أو المرجعي، فيستقر لديه أن سبب القوة والعز كان يكمن في شيوع العدل والإنصاف.

لست أرغب في تعداد النماذج والأمثلة، وهي غير قليلة، فضلا عن كونها غير مجهولة، ولكنني أرغب في التنبيه إلى خلاصتين أود الاحتفاظ بهما؛ أولاهما أن مفهوم العدل قد حضر في تراثنا العربي بصور متنوعة، فكان محل نظر من المتكلمين (نسبة إلى علم الكلام أو أصول الدين)، والفقهاء، ومن الذين اعتنوا بالحكمة (فأنا أسميهم حكميين، بكسر الحاء والميم وفتح الكاف)، ثم من قبل الذين تميزوا بنظر اشتهروا به بين المؤرخين (ومن الطبيعي أن أول اسم يخطر بالبال هو ابن خلدون). لا يتسع لي المجال للقول في المعنى الذي اتخذه العدل عند كل من الفئات ممن ذكرت، فضلا عن كون مقام الحديث لا يحتمل ذلك، بيد أنني أقول، وتلك هي الخلاصة الثانية، إن مفكري النهضة عرضوا لمفهوم العدل باعتباره مدار التفرقة بين التأخر «هنا» والتقدم «هناك».