أسطورة الرئيس اللبناني «القوي»

TT

دعوات انتخاب مرشح «قوي» للرئاسة اللبنانية، ظاهرة تجاوزت إطار الترويج لهذا المرشح أو ذاك لتكاد أن تتحول إلى نص دستوري مقترح على «اتفاق الطائف».

مبرر الحملة، ظاهرا، افتراضها أن الرئيس اللبناني «القوي» قادر على توظيف «قوته» لاستعادة هيبة الدولة المهدرة وسلطتها المستباحة. أما غايتها العملية فلا تخرج عن السعي لتسويق اسم هذا المرشح أو ذاك دون تجشم عناء توصيف مقومات قوته فيما خلا التأكيد على أن يكون قويا «داخل» طائفته.

وحده البطريرك الماروني، مار بشارة بطرس الراعي، كسر الصمت المطبق حول مواصفات المرشح «القوي» ليضع له صفات حسنى قد لا يكون من المبالغة الادعاء بأنها تقطع طريق الترشح على معظم الطامحين بالرئاسة أكثر مما تمهده لهم – خصوصا اشتراطه أن يكون قويا «أولا بأخلاقياته ومثالية حياته وأدائه عبر التاريخ» - صفات تنطبق على النساك أكثر مما تنطبق على السياسيين في مجتمع تحوّل فيه العمل السياسي إلى أقصر الطرق إلى الإثراء.

فرضية حصر استقامة الدولة «بقوة» رئيس الجمهورية ضرب من الطوباوية السياسية في بلد اختبر قصره الرئاسي، على مدى سنوات استقلاله السبعين، كافة «نماذج» الشخصيات الرئاسية وتلاوينها.. دون أن تفلح أي منها في رفع مستوى المؤسسة الرسمية إلى الحدود الدنيا لمفهوم الدولة العصرية (باستثناء مسعى من الرئيس فؤاد شهاب أحبط قبل اكتماله).

إلا أن المأخذ الأبرز على الحملة الحزبية لتسويق «الرئيس القوي» يعود إلى تركيزها على اشتراط أن يكون قويا «داخل» طائفته. فمع التسليم بأن لا زعيم في لبنان ما لم يكن زعيما في طائفته أولا، يبقى السؤال واردا عما إذا كانت هذه القاعدة تكفي، بحد ذاتها، لإنتاج مرشح ماروني «قوي» للرئاسة.

عمليا، ومهما كان مرشح الرئاسة الماروني «قويا» في شارعه، فإن الحجم الديمغرافي المتضائل لطائفته في لبنان، مقرونا بانقسامها مناصفة تقريبا بين تيارين سياسيين متنافسين، لا يعزز قوته بقدر ما يوهنها. وهذا الواقع يضطره لأن «يستعير» قوة ترشيحه من خارج طائفته، وتحديدا من واحدة من قطبي الأكثرية البرلمانية في لبنان: تكتل «8 آذار» أو تكتل «14 آذار»... علما بأن القوة المستعارة، كالأمن المستعار، تبقى رهينة إرادة المعير لا المستعير.

إذا سلمنا، جدلا، بأن ثلثي الـ128 نائبا لبنانيا – أو نصفهم زائد واحد – سيلتقون على اختيار رئيس «قوي» للجمهورية بمعزل عن أي «وحي» خارجي أو مصلحة داخلية، فذلك لا يحول دون التشكيك بصحة وصف أي رئيس لبناني «بالقوي» طالما كان ناخبه 128 شخصا فقط - مهما كانت صفتهم التمثيلية - لا الشعب اللبناني بكافة شرائحه وطوائفه.

قبل أن يستمد الرئيس اللبناني تفويضه من الشارع «مجتمعا»، ستبقى «قوته» نسبية بفعل ارتهانها بعلاقته بكتل المجلس النيابي – وخصوصا ناخبيه - وليس بالمواطن اللبناني مباشرة، المرجع الأساسي للشرعية في لبنان. وفي هذا السياق بالذات، يبدو لافتا أن لا يرتفع صوت واحد يطالب بتعديل الدستور بحيث يناط بالشعب اللبناني كله انتخاب رئيسه على قاعدة الاقتراع المباشر.

مع ذلك، وحتى في حال وصول مرشح يوصف بالقوي إلى سدة الرئاسة في لبنان، يستحيل تجاهل الحدود الدستورية «لقوته»، فمنذ أن أناط دستور «الطائف» بمجلس الوزراء «مجتمعا» صلاحيات السلطة الإجرائية، لم يعد متاحا لأي رئيس لبناني ممارسة دور «الرئيس القوي». وعلى هذا الصعيد، يكفي أن تصبح صلاحيته الأبرز كقائد أعلى للقوات المسلحة خاضعة، هي الأخرى، لسلطة مجلس الوزراء.

إلا أن السؤال الواقعي الذي يثيره طرح شعار «الرئيس القوي» يبقى «الجدوى السياسية» من اختيار مرشح «قوي» لرئاسة دولة ضعيفة مثل لبنان، إن لم تكن فاشلة بمعايير الدول العصرية.

أوليس الأجدر بسياسيي لبنان، قبل التفتيش عن «الرئيس القوي»، التوافق على «ميثاق وطني» جديد يبني الدولة القوية بحيث تصبح هي – لا الطوائف ولا المذاهب - القاعدة الصلبة لمقام الرئاسة «القوية»، ويصبح الرئيس اللبناني، المنتخب مباشرة من الشعب، قويا بحكم «المؤسسة» لا بفضل «الشخصية»؟