رسالة عرفات لـ«كارمال» والقبلية لا تزال تهدد أفغانستان

TT

في عام 1979، بعد انقلاب بابراك كارمال على حفيظ الله أمين الذي كان انقلب على نور محمد طرقي الذي كان أطاح بالجنرال محمد داود الذي قام بأول انقلاب عسكري ضد ابن عمه الملك محمد ظاهر شاه الذي حكم لنحو أربعين عاما.. في هذا العام 1979 سُئل أحد القادة الفلسطينيين من ذوي الميول اليسارية ومن الذين يعتبرون من المقربين إلى الاتحاد السوفياتي عن رأيه بما يجري في هذه الدولة الإسلامية، التي عرفها العرب من خلال جمال الدين الأفغاني، وكان جوابه: والله ستحترق حتى أصابع الولايات المتحدة والغرب كله بما ستشهده هذه البلاد من تطورات وأحداث ستترك آثارا مدمرة على معظم دول العالم بأسره.

في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة قد أنجزت المساعدة في إنشاء عشرات الألوف من المدارس (الكتاتيب) التي خرّجت أعدادا هائلة من «المجاهدين» وكان الهدف هو إعداد الجمهوريات الإسلامية «السوفياتية» لثورات ضد الاتحاد السوفياتي الذي كان الغرب كله يخشى من اقترابه من منابع النفط بعد نجاح الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979 في إسقاط شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي كان يعتبر، وهو كذلك، رأس الجسر المتقدم في اتجاه قلب حلف وارسو وفي اتجاه القطب الكوني الأكبر في المجموعة الاشتراكية التي كانت تضم كل دول أوروبا الشرقية.

كانت تلك المنطقة تغلي بارتدادات الانقلابات العسكرية الآنفة الذكر وكان الاتحاد السوفياتي، الذي كان في الحقيقة هو من أسقط تجربة حكم حفيظ الله الذي كانت تحوم حوله الشبهات رغم تطرفه اليساري والثوري بأنه عميل للولايات المتحدة، قد أرسل قواته لتحتل أفغانستان كلها وينصّب بابراك كارمال زعيم جناح «برشم» المتطرف في حزب خلق الثوري الذي كان أسسه نور محمد طرقي وحكم باسمه في الفترة التي حكم فيها، وبالطبع فإن طلائع تنظيمات «المجاهدين» التي كانت عاصمتها مدينة «بيشاور» الباكستانية قد بدأت تظهر وقد بدأت عملياتها العسكرية بتوجيه من أميركا وبإعداد من الدول الغربية كلها وبالطبع بمساندة من معظم الدول العربية والإسلامية.

في تلك الفترة كنت أعمل صحافيا في إحدى الصحف اللبنانية المحسوبة على المقاومة الفلسطينية وعلى ما يسمى الدول التقدمية العربية وفي مقدمتها جماهيرية العقيد معمر القذافي وعراق صدام حسين الذي كان انتزع حكم الجناح الآخر من حزب البعث بعد مذبحة دامية أطاحت برؤوس وجبة كبيرة من كبار قادة هذا الجناح، ولهذا فقد وصلتني دعوة اكتشفت لاحقا أن وراءها، مع أنها موجهة من قبل وكالة «نوفستي»، الأوساط الإعلامية المقربة من الرئيس الفلسطيني (الراحل) ياسر عرفات رحمه الله.. وبالتنسيق مع السفارة السوفياتية في بيروت.

لقد ترددت في الحقيقة في قبول هذه الدعوة التي شعرت بأنها غامضة وأن قبولها في تلك الفترة مغامرة خطيرة جدا وذلك إلى أن أُبلغت بأن (أبو عمار) يريدني.. وإلى أن أبلغني رحمه الله بأنه «عرف»!! أنني أريد الذهاب إلى أفغانستان في مهمة صحافية.. ولقد قال لي بعد استقبال حار كعادته: أنت تعرف يا «خوي» أن هناك قمة إسلامية ستنعقد قريبا، خلال أيام، في باكستان وأنني سأحضرها وأنها ستكون قمة رفض الاحتلال السوفياتي لهذه الدولة الإسلامية.. ولذلك «ما دام»!! أنك ستذهب إلى كابل «بالسلامة» فإنني رأيت أن تحمل منّي رسالة إلى الرئيس الأفغاني بابراك كارمال.. «أرجوك أن تذهب من خلال موسكو وأن تحرص على إعلام (الروس) من خلال وسائلهم الإعلامية بهذه الرسالة.. لا تنس (يا حابيبي) أن هذه مسألة في غاية الأهمية».

قلت وأنا أودعه «حاضر يا فندم» إن هذه الرسالة ستصل إلى «الرفيق» بابراك كارمال شخصيا وإنني سأشد الرحال إلى أفغانستان غدا.. وإنه سيأتيك بالأنباء ما لم تزود.. ضحك بصوت مرتفع.. وقال وهو يضع يده على كتفي: دير بالك على حالك «يا خوي».. ولا تنس أن تبلغ أي جنرال «روسي» تلتقيه بهذه الرسالة وبما تضمنه من دعم للرفاق الأفغانيين.. قلت وأنا اضحك بصوت مرتفع: لا توصِ حزينة بالبكاء.. لقد وصلت الرسالة أيها الأخ القائد العام. وصلت بعد ثلاثة أيام إلى كابل وكان في استقبالي عدد من الشبان الأفغانيين الذين عادوا للتو من الولايات المتحدة ومعهم شاب فلسطيني ينتمي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش).. وعرفت منه ومنهم أن الجالية العربية في العاصمة الأفغانية مكونة من ثلاثة عشر طالبا، منهم اثنا عشر فلسطينيا وواحد أردني، عرفت لاحقا أنه من العشيرة التي أنتمي إليها، وثلاثة تجار من لبنان وأربعة من سوريا وأن بعض السفارات العربية رغم «تقدميتها» فإنها تتعاطف مع «المجاهدين» وتوصل عبر دولها بعض المعلومات التي تعتبر سرية إلى وسائل الإعلام العالمية.

كان هناك في الفندق الذي أُنزلت فيه صحافية واحدة كان عمرها في ذلك الحين بعمري الآن وربما أكثر قليلا.. كانت مندوبة شبه مقيمة إقامة دائمة كمراسلة لصحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي الـ«لامونيتيه» وقد أبديت حرصا شديدا على أن أعرف أنه لا وجود لـ«المجاهدين» في كابل وأن حزب «خلق» موحد ولا يعاني من أي انقسامات.. وحقيقة أنه كان ممزقا ومنقسما على نفسه.. وأن «البلوش» كانوا في وادٍ والطاجيك في وادٍ آخر.. وأن «الهازار» الشيعة رؤوسهم في أفغانستان وعقولهم وقلوبهم وولاؤهم في إيران، وأن هناك أقليات لا حصر لها من بينها أقلية تركية ومن بينها أقلية صغيرة عرفت من دون أي تأكيد أنها أقلية عربية تدعي أنها تنتسب إلى قريش وأن بداياتها جاءت مع الفتح الإسلامي في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان وفي الحملة التي كان فيها مالك بن الريب مبدع «اللامية» الشهيرة، وأن هذه الأقلية لا تزال تتحدث بلغة القرآن الكريم أي باللغة «القريشية» الأصيلة.

بعد أيام قليلة وبعد أن أخذت إلى قصر الرئاسة لأسلم «الرفيق» بابراك كارمال رسالة أبو عمار ولأشهد مع آخرين فرحته بتسلمها أخذت إلى مدينة مزار شريف وحيث المرافق العائد من الولايات المتحدة بأن هذه المدينة قد سميت بهذا الاسم لأن علي بن أبي طالب بعد وفاته بطعنة خنجر مسموم حُمل على ناقة بيضاء «وضحاء» وأن جبريل عليه السلام أمر هذه الناقة بأن تتجه إلى هذا المكان «الذي هو المكان المقدس عند المسلمين»!!

قلت لهذا الشاب من قبيل التصحيح: يا عزيزي إن المكان الأول المقدس عند المسلمين هو مكة المكرمة ثم المدينة المنورة ثم القدس الشريف.. ثم مقامات كثيرة في الكثير من الدول العربية المشرقية والمغربية.. ربما أن كلامي لم يكن مقنعا لمرافقي الذي أخذني في صباح اليوم الثاني إلى «المزار الشريف» الذي هو في حقيقة الأمر عبارة عن مسجد يشكل تحفة معمارية رائعة بالفعل والذي يضم ضريحين مجللين بشرشفين حريريين؛ أحدهما كما قال لي لـ«علي بن أبي طالب» والآخر لأحد أبنائه.

لقد قال لي بعد أن أخذني: «ألا ترى كل هذه الأعداد التي لا تحصى من الحمام الأبيض».. واستطرد بعد أن هززت رأسي موافقا «بعد أن بركت الناقة التي حملت جسد علي بن أبي طالب من النجف في العراق تحولت إلى حمامة بيضاء «فرّخت» كل هذه الأعداد... كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت هو سلطان علي كشْتَمنْد أحد أبناء الطائفة الشيعية الكريمة وكان عندما التقيته لاحقا في منزله وأبلغته بحكاية ناقة مزار شريف قد وافقني على مضض على أنه لا صحة إطلاقا لهذه الحكاية وأن الفرس الذين كانوا يحكمون هذه البلاد قد اخترعوها لإعطاء دعوتهم بعدا دينيا كانوا في أشد الحاجة إليه في تلك الفترة المتقدمة.

والمهم أنني قد شهدت في تلك الزيارة الصحافية، التي حملت خلالها رسالة ياسر عرفات (أبو عمار) إلى «الرفيق» بابراك كارمال الذي من المؤكد أنه فارق هذه الدنيا الفانية منذ سنوات بعيدة، كيف أن المعادلة القبلية والطائفية قد أرغمت الشيوعيين ومعظمهم من الطاجيك الشيعة على رفع علم البشتوني في أهم ساحة في كابل ولهذا فإن الخوف كل الخوف هو أن فوز عبد الله عبد الله في الانتخابات الرئاسية التي تحدث على الأبواب أو غيره من القومية الطاجيكية سوف يؤجج الصراع مع البشتون.. وبخاصة أن برهان الدين رباني ساهم في وضع الحكم في أيدي «الطالبان» المتشددين عندما رفض مبدأ التداول على السلطة مع الباشتوني غلب الدين حكمتيار.