الدولة قضية مصلحية

TT

تختلف تيارات «الإسلام السياسي» ومذاهبه من حيث الشدة والليونة، وتتفاوت المواقف بالنسبة للذين ينتمون إلى هذا المذهب أو ذاك من حيث درجات الغلو والإسراف، بيد أنها تلتقي، جميعها، عند فكرة أساسية تجمع بينها، وعند نقطة تلتقي عندها؛ فأما الفكرة الأساسية، فهي اعتبار الوصول إلى امتلاك السلطة التنفيذية الهدف الأوحد الذي يكون السعي نحوه، وأما النقطة التي تلتقي عندها كل تيارات ومذاهب الإسلام السياسي (مع الاختلافات التي توجد بينها، كما لمحنا إلى ذلك) فهي القول إن الدولة تعتبر ركنا من أركان الدين، فليس الدين يستقيم دون عمل مباشر على إقامة الدولة الإسلامية على الحقيقة. هذا الاعتقاد هو ما يقيم الفارق الجوهري الواضح؛ فليس يحتمل لبسا أو يستدعي اجتهادا وتأويلا بين الذين ينتسبون إلى ملة الإسلام (من أهل السنة، إذ الشأن عند الشيعة - باستثناء زيدية اليمن - آخر مختلف) وكل الذين ينتسبون، بكيفية أو أخرى، إلى «الإسلام السياسي»؛ فما الشأن في المسألة السياسية، إجمالا، عند عموم أهل الإسلام؟ وما القول الذي يجمع عليه أهل الملة في النظر إلى مسألة الدولة تخصيصا؟ وفي عبارة أخرى، أكثر وضوحا، ما القول في الصلة بين الدين الإسلامي والدولة؟

رب قائل يقول: إن هذه الأسئلة (وما شابهها) ليس مما يكون التطرق إليها في مقالة لا تستهدف التوجه بالخطاب إلى أهل الاختصاص من علماء السياسة والمنشغلين بالفكر السياسي، لا بل إن حديثا من هذا القبيل ليس مما يحتمله المنبر الذي نتحدث منه. وهذا الاعتراض ليس صحيحا فحسب، ولسنا نؤيده فحسب، وإنما نحن نقول به، ونلتزم بالقول معا، غير أننا، من جهة أخرى، نرى أن ما يعتمل في الساحة العربية من آراء ونظريات غريبة، ومن فكر لا يمت في واقع الأمر إلى الدين القويم بصلة، مثلما أنه من الرأي الشاذ العجيب الذي ترفضه كل نظريات الفكر السياسي المعروف والمقبول، كل هذا يجعل من عمل التنوير مطلبا حيويا ضروريا معا، والتنوير يعني تسليط النور، والعمل على إشاعة النور، وجعل الرؤية الواضحة أمرا ممكنا. ولسنا في ذلك نريد الذهاب بعيدا، فنغرق في النظريات الدقيقة وفي الأفكار المجردة، مما مجاله الطبيعي مدرجات كليات الحقوق والسياسة والفكر الاجتماعي ومعاهد العلوم السياسية ومدارسها، فنحن لا نريد ذلك، وما أحسب أن قارئ هذه الصفحة من الراغبين فيه أيضا. نود أن نسهم في عمل التوضيح بالتنبيه إلى ما نجده أمرا مقررا عند الكبار النابهين من علماء الدين الإسلامي، أي من الذين يُعتدّ بقولهم، فهم أولا وأساسا ملتزمون بما يقضي به الدين الإسلامي، وبالتالي فنحن نسعى إلى التماس الرأي الصحيح والقول الفصل. وبعبارة أكثر وضوحا، فنحن نتساءل مع هؤلاء العلماء النابهين من أهل المعرفة العالية بالدين من جهة، ومن الذين ينشغلون بهموم المسلمين شعوبا ودولا من جهة أخرى، نتساءل فنقول: هل تعتبر الدولة ركنا أساسيا من أركان الدين الإسلامي، فهي من جوهر العقيدة، والعقيدة لا تستقيم إلا بإقامة الدولة على نحو معلوم (كما تذهب إلى ذلك مدارس وتيارات الإسلام السياسي)، أم أن الحقيقة غير ذلك؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من التذكير بحقيقة أولية يقول بها أهل ملة الإسلام جميعا، كما أن العقلاء من أهل المعمورة جميعا يقرونها، هذه الحقيقة هي أن الدولة أمر ضروري لاستقامة الوجود البشري، إذ إن وجود الدولة (القوية القادرة) هو ما يجعل الأمن ممكنا، والحياة الاجتماعية طبيعية، بل ممكنة، كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل إن الدولة هي التجلي الأمي للعقل في الوجود الاجتماعي للبشر، واستمدادا من هذه الحقيقة الأولية وتسليما بها، نجد أن الفقهاء والعلماء في الإسلام يقولون بوجود الدولة القوية القادرة شرطا ضامنا للممارسة الدينية ذاتها. وإذا كان من المسلَّم به أن الشرط الأول الذي تستمد منه الدولة مشروعية وجودها هو القدرة على تحقيق الأمن (وأحد تجليات الأمن القدرة على ممارسة الحياة الدينية السليمة، وبالتالي تحقيق الأمن الروحي في شروطه الدنيا)، فإن فقهاء الإسلام سلموا بهذه القضية، والشأن قد كان كذلك في تاريخ الإسلام على امتداده، فلا أحد من الفقهاء أو من علماء الدين أو من مفكري الإسلام يقلل من خطورة أمر الدولة، ومن اعتبارها ضرورية من أجل تحقق الدين ذاته، ومن الحفاظ على الدين ومراعاة شؤون المسلمين تستمد الدولة شرعيتها في الوجود.

نرجع الآن إلى السؤال المطروح أعلاه، فنجيب على النحو التالي: كل ما ذكرناه، في الفقرة أعلاه، لا يجيز القول إطلاقا إن الدولة بعض من أركان الدين (فهي في جوهره)، وليس القول بالدولة على نحو معين جزءا من الاعتقاد. وعلماء الدين الإسلامي يميزون بين ثلاثة أمور؛ أولها ما كان متصلا بالعقيدة والاعتقاد (الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، كما هو معلوم في حديث جبريل). وثانيها ما يتقرر في الفقه من الأمور التي يكون التعبد بها (النطق بالشهادتين، الصلاة، الصوم، الزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلا.. ثم ما يستتبع هذا من أمور تتصل بالعبادات، وبالتالي من «التعبديات»). وثالثها ما يعده الفقهاء عامة (والمنشغلون بفقه المقاصد أو المنكبون بالدرس والفحص على مقاصد الشريعة بغية استنباط مراميها) مصلحيات، أو أمورا تتصل بمصالح الخلق.

يقول أحد كبار علماء الإسلام، من الذين يقترن اسمهم بمباحث مقاصد الشريعة، وهو العالم المغربي علال الفاسي، عن المصلحيات: «المسائل الراجعة للمصلحة العامة، التي تتطور بحسب تقلباتها وجودا وعدما، كما يقولون. وفي مقدمة هذه المصلحيات ما يتعلق بشؤون الدولة وأنظمتها وشكل الحكم الذي تختاره الأمة لنفسها. ومعنى هذا أن الإسلام وجّه المسلمين نحو الحياة الاستشارية».

القول إن الدولة قضية مصلحية، تمييزا لها عما كان تعبديا من جانب، وكان من جوهر الدين من جانب آخر، قول يقطع بخطأ الأساس الذي يقوم عليه فكر الإسلام السياسي؛ فهو يظهر تهافت ذلك الفكر وينبه إلى مغالطاته.