تأميم «الموارنة»

TT

فتحت جلسة البرلمان اللبناني الأخيرة في 23 أبريل (نيسان) الحالي، المخصصة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، باب التسويات بين الأطراف الإقليمية والدولية النافذة في لبنان، مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح بعض الفرقاء الداخليين من الأوصياء الجدد على الاستحقاق الرئاسي، وفي مقدمتهم حزب الله وتيار المستقبل، إضافة إلى القوى السياسية والروحية للطائفة المارونية، المعني الأساسي بهذا الاستحقاق. لكن هذه التسويات لم تراع الهواجس التي تؤرق المسيحيين خصوصا الموارنة. فمنذ توقيع أمراء الحرب اللبنانية اتفاق الطائف من أجل إنهاء الحرب الأهلية، يتعرض المسيحيون لعملية إضعاف مقصودة ومدروسة، قادتها حتى عام 2005 أدوات نظام الوصاية الأسدية على لبنان، بعد أن انقلبت على بنود اتفاق الطائف، وعطلت تنفيذه، ودفعت ورثتها بعد انسحابها إلى التعامل مع المسيحيين بمنطق المنتصر، وقد تسنى لها ذلك بعدما تمكنت من تشتيت قياداتهم ونخبهم، إما عبر الاعتقال وإما النفي وإما فرض إقامة سياسية محصورة على من رفض منهم مغادرة لبنان.

ولو كتب لمشهد الرابع عشر من سنة 2005 يوم انتفض اللبنانيون مسلمين ومسيحيين ضد النظام الأمني اللبناني السوري المشترك بعد شهر على جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، أن يستمر طويلا، لاستطاع الموارنة بالتحديد، أن يستعيدوا تاريخهم القيم في بناء دولة لبنان الكبير. لكن الصراعات الجانبية داخل بيت الطائفة الواحدة، واستخدامها على ضفتي الصراع الشيعي - السني، أنست الموارنة مهمتهم الوطنية وأدخلتهم في أتون الانقسام العمودي بين الطائفتين المتنازعتين، مما أدى بهم إلى مزيد من الضعف، وبدافع التقسيم السياسي للدولة اللبنانية القائم على الترويكا الطائفية حافظ السنة والشيعة على مركزيهما (رئاستي الحكومة والبرلمان) باعتبارهما حقا حصريا لهما، وهما وحدهما المعنيان باختيار من يمثلهما في هذين المركزين، بينما اشترطوا على شريكهم الثالث التوافق، فاحتكر كل واحد منهما استحقاقه بما يناسبه، وتشاركوا الرأي، أو فرض الرأي في الاستحقاق الأكبر أي الرئاسي، فأصبح الأمر أقرب إلى التأميم لوظيفة مارونية.

والكلام هنا ليس دعوة إلى خصخصة منصب رئيس الجمهورية أو احتكار الموارنة لهذا المنصب، بقدر ما هو تذكير بوجوب احترام خيارات المسيحيين، وتمكينهم من إيصال شخصية قوية تمثلهم إلى السلطة.

في مقابل التذرع بالتوافق بقصد إيصال شخصية ضعيفة أو مرتهنة لإرادات متعددة، تحت شعار الديمقراطية التوافقية، لا تعكس الواقع الفعلي للمسيحيين، أو على الأقل لا تسمح لهم بما سمحت به للطوائف الأخرى، ورغم أن هذا الشعار المعمول به، لم ينتج سابقا إلا حكومات متناقضة متحاربة، سميت حكومات وحدة وطنية، لأنها لم تقدم للبنانيين حلولا ولا حتى أنصاف حلول لأزماتهم المتراكمة، اللهم إلا تمرير مصالح أقطابها دون أن يقدر أحد على محاسبتها.

لقد قالت بكركي كثيرا، لكنها لم تقل مرة كلاما حاسما، يحفظ التوازن اللبناني بحفظه لموقع الموارنة، ولا مخرج للبنان وبكركي وللموارنة من هذا المأزق، إلا أن تكون بكركي مع الديمقراطية الحقيقية التي لا تتنافى مع التوافق العميق، ولا مع الميثاق، أي وجود طرف سياسي حاكم وطرف معارض، ويكون الصراع على برامج وطنية عامة، ويكون الاستقطاب على أساسها لا على أساس الاستئثار والاستتباع.

ليس المطلوب عودة المارونية السياسية كما كانت، ولكن المطلوب أن يكون هناك موارنة جدد وأقوياء، من دون ضرورة أن تكون الأطراف الأخرى ضعيفة أو أقل قوة، وبقوة الجميع وعقلانيتهم تقوى الدولة ويسلم الوطن.