عزف على قيثارة «التنمية»

TT

قبل فترة ليست بالطويلة، لم يكن اسم ويندي دونيغر معروفا إلا وسط مجموعة صغيرة من الخبراء المهتمين بالشأن الهندي. أما الآن، فقد اجتذبت تلك الباحثة الأميركية المميزة في مجال الدراسات المتعلقة بالديانة الهندوسية، والتي تحاضر في أرقى الجامعات في الولايات المتحدة وبريطانيا، الاهتمام من جميع أنحاء العالم. غير أن مبررات هذا القدر الكبير من الاهتمام ليست إيجابية كما قد يظن البعض.

في عام 2009، أصدرت دونيغر كتابا مهما بعنوان «الهندوس: التاريخ البديل»، الذي قوبل بترحيب وثناء واسع من البعض، لكنه واجه - في الوقت ذاته - الكثير من الانتقادات من البعض الآخر. وكان من بين أهم الانتقادات التي أصابت هدفها إصابة شديدة تلك التي أطلقها دياناث باترا، ذلك الرجل البالغ من العمر 84 سنة والذي كرس حياته لتطهير الخطاب الفكري في الهند من جميع المؤثرات التي تشوه - في رأيه - الطبيعة البكر للديانة الهندوسية. لم يكد يظهر الكتاب في الأسواق حتى انبرى باترا لمواجهة دونيغر بأن حرك ضدها دعوى مدنية في المحاكم، متهما إياها – بالإضافة لمجموعة أخرى من الاتهامات – بالتركيز على السلوك الإباحي لآلهة الديانة الهندوسية بدافع من «طبيعتها التبشيرية المسيحية».

وقد بدت الاتهامات التي أطلقها باترا، سخيفة إلى حد كبير، لأسباب عدة ليس أقلها أنها وجهت لباحثة يهودية. غير أنه وبنظرة أكثر جدية للأمر، نجد أن منتقدي دونيغر لا يمكنهم مجاراتها من الناحية العلمية، إذ إنها دعمت كل ما طرحته في كتابها عن طريق سَوق مجموعة كبيرة من الأدلة الوثائقية - التي حصلت عليها من مصادرها الأصلية - من اللغة السنسكريتية الهندية القديمة. وتشير دونيغر في كتابها إلى أن التقاليد الهندية لا تقيدها حدود وستبقى في حالة تطور إلى الأبد، كما تتقبل الأفكار المنبثقة عن المصادر الأخرى، فضلا عن أنها قادرة على التمتع برفاهية الشك والرأي الآخر والتفسيرات التي لا تعد ولا تحصى.

جرى تسوية القضية أخيرا بعيدا عن المحاكم بصورة أغضبت الرأي العالم الليبرالي أكثر من الحملة التشهيرية التي شنها باترا. ووافق الناشر، دار «بينغوين»، على سحب الكتاب وإعدام كل النسخ. ولتبرير هذه الخطوة، سعى إلى الاحتماء خلف مادتين من القانون الجنائي الهندي؛ إحداهما تفرض عقوبة قاسية ضد من يروجون للعداء بين الجماعات الدينية أو العرقية، وأخرى لمن يهينون المعتقدات أو المشاعر الدينية. وكان المتوقع أن ترفع «بينغوين» الأمر إلى محكمة أعلى للدفاع عن المؤلفة، لكنها اختارت الاستسلام في النهاية، الأمر الذي أثار شكوكا خطيرة حول التزام الناشر بحرية الفكر والرأي والتعبير.

ولماذا وقع اللوم على «بينغوين» وحدها؟ قضية ويندي دونيغر ليست سوى أحدث الأمثلة على الهجمات المتزايدة التي تنال من الكتّاب العلمانيين والليبراليين واليساريين، المخرجين والرسامين والصحافيين - الذين يعدون كأطفال «ماركس وماكولي الضالين» في الهند - ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على الدين والثقافة. وهؤلاء ينتمون في الأغلب إلى جماعات يمينية تغذي الاضطهاد ضد الأقليات المسيحية والمسلمة في الهند، وترى في سعى النساء إلى تقلد المناصب في الهند مؤشرا على الخطر.

ما يجعل من هذا المد المتصاعد من التعصب حلقة مشؤومة هو فشل السلطة التنفيذية والشرطة والمؤسسات القضائية في تقديم المخربين للعدالة، ناهيك عن أن الخوف من إثارة غضبهم يتخلل كل مستويات الحكم. بيد أن ما يشكل العنصر الرئيس في الهند - ذلك التنوع المذهل - يواجه خطر التلاشي السريع.

الجدل بشأن دونيغر لم يكن ليكتسب هذا الاهتمام لولا أن القضية طفت على السطح في هذا التوقيت. تلك الأجواء العاصفة طوال العام جعلت الديمقراطية في الهند أكثر نشاطا خلال موسم الانتخابات. تبدأ بمحاكاة رقصة يؤديها إله الهندوس شيفا. وبدورها تكون حركات الرقص المعروفة باسم تاندافا هادئة وعنيفة، فوضوية ومرنة وحماسية وغريبة الأطوار. من المفترض أن تصور مراحل مختلفة من دورة الخلق: الخلق والبقاء والدمار.

جميع هذه المراحل تجري على مرأى ومسمع في الهند اليوم في وقت تتوجه فيه البلاد نحو انتخابات برلمانية ستجرى على عدة مراحل خلال شهري أبريل (نيسان) ومايو (أيار). بيد أن تلك الحملة تشهد نشاطا منذ بضعة أسابيع بالهند. ويصف أمارتيا سين، الاقتصادي البارز، مواطنيه الذين يناقشون حتى القضايا الرثة على المنابر الانتخابية بصورة تصم الآذان، بـ«الهنود المولعين بالجدل»، وهو أمر ليس بالغريب على الهند.

إن ما يميز الهند حقا - عن كل بلدان جنوب آسيا الأخرى - هو عودة السياسة المتجذرة في وجهات النظر الرجعية وأشكال التحيز والأوهام المتعلقة بالعرق والدين والطائفة والشوفينية الإقليمية. فكل الأحزاب السياسية الهندية من دون استثناء، تعزف على قيثارة «التنمية» وعلى «القوة والفعالية والشفافية والخضوع للمساءلة»، لكن البحث العميق يكشف أن الجميع محصورون في «سياسات الهوية».. ذلك المرادف الزائف لسيطرة ما يسمى حقوق الجماعة على حقوق المواطنين الفردية. فهذه الأخيرة جزء لا يتجزأ من الحضارة - كما كشفت ويندي دونيغر ببراعة - والدستور الهندي. وهذه الحريات هي التي تحمل الأمل في نهاية رقصة شيفا، والتي تعني التحرر من كل ما يستعبد العقل.

* رئيس التحرير السابق لصحيفة «تايمز أوف إنديا»، وعضو هيئة التحرير الدولية لصحيفة «هافينغتون بوست»

* خدمة «غلوبال فيو بوينت»