إنجازات «حزب الكنبة»

TT

أنا من جيل «النكسة». بلا مؤاخذة، ولا فخر. وكان أساتذتي من جيل «النكبة». كانوا يقولون لنا في المدرسة والجامعة إنهم خسروا المعركة. وعلينا نحن الشباب أن نستعيد فلسطين. والأندلس. وقارتي آسيا وأفريقيا. فاكتفى جيلي بإضاعة دولة الوحدة. وارتكب هزيمة «النكسة».

تسلط علينا عسكر الطائفة وحزب العشيرة. عيرونا بأننا «جيل الهزيمة والرجعية». قالوا: إنهم «جيل التقدمية والتضحية». شهروا علينا سيف «المقاومة» الزائفة. فهربنا هاجرنا. أعيش وأعمل في المنفى منذ أربعين سنة. سبقني ولحق بي مئات الألوف إلى أرض الحرية.

هؤلاء تفرغوا لإنجاب جيل عربي في سحنته. وغريب في لغته. هذا الجيل الجديد لم يسمع بصلاح الدين. وعبد الناصر والسادات. وكاظم الساهر وفيروز. وعبد الوهاب. ويقول عن أم كلثوم إنها نفرتيتي المقيمة على الكنبة بمتحف مع أنجيلا ميركل في ألمانيا.

حلم الشاه. فشهر سيف الإمبراطورية. سحبته أميركا. واستعارت خميني المقيم لدى فرنسا. فأفتى بالوصاية على العرب والعجم. علق «مفتاح القدس» في رقاب شباب إيران. قال: إنه سيحرر بهم فلسطين. فماتوا في غزو العراق!

اخترع خامنئي «المقاومة» فتوعد أحمدي نجاد إسرائيل بالقنبلة المخيفة. ألقى عليها حزب الله فاخر حسن الحزب بألف شهيد شيعي وأخفى في الثلاجات جثث المئات من شباب الشيعة الذين ماتوا في حرب «الممانعة» في سوريا.

قلت للشباب المتمطي أمامي بكسل على الأريكة الواسعة: «هذا أنا، يا بني، فقل لي من أنت؟» نقل الشاب بصره من التلفزيون ركز نظره عليّ. قال بشيء من الأسف الممزوج باللامبالاة: «أرثي لك على هذا التاريخ الحافل. لا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك. فأنا مجبر على الصمت. أنا من الأغلبية الصامتة».

أردفت بإشفاق: «لماذا لا تنتظم الأغلبية الصامتة بحزب؟ لماذا لا تناضلون ضد الصمت؟» قاطعني الشاب: «ومن قال لك بأننا لسنا في حزب؟ نحن أكبر حزب في العالم العربي. نحن (حزب الكنبة) الذراع السرية للأغلبية الصامتة».

وهكذا، تشرفت بحزب الكنبة. سألته عن السبب في نأي الأغلبية عن السياسة: «هل الحياد فضيلة وممارسة السياسة رذيلة؟».

مشط الفتى شعره بأصابعه. قال بلغة الإنترنت: «الأسباب كثيرة. الحياد السياسي يختلف من فئة إلى أخرى. ومن مجتمع إلى مجتمع».

قلت بلهجة الاحتجاج: «لا أتحدث عن فئات ذات مطالب ضيقة وخاصة. وعن فئات عنصرية أو طائفية مستمرة لإحراق بلد بعنف السياسة، لتشعل سيجارة. أتحدث عن التيار العريض فينا الذي يعزف عن ممارسة السياسة. لا بد من ممارسة سياسة السلم. والحوار. والمشاركة، إذا أردنا أن نحقق تطورا متساويا في المجتمع. أن يكون القانون، لا السلطان، حكما بين القادر والعاجز؟ بين القوي والضعيف».

قال الفتى بضيق صدر وصبر: نحن هنا في حزب الكنبة لا نفلسف السياسة. يكفينا الاعتقاد بأن السياسة زيف. عنف. قوة. حيلة... نترفع عن السياسة، لنحتفظ بكبرياء النفس أمام قوة التسلط. وظلم الاحتكار والمحاباة. بعضنا يخاف الإذلال النفسي. بعضنا يخشى التعذيب الجسدي.

قلت في نفسي لأخفف من الفذلكة. قاتل الله التنظير. أحببت أن أقترب من الواقع. سألت عن قيادة حزب الكنبة: «هل هو حمدين صباحي؟».

جاء في الجواب بلهفة مستعجلة: «يا ريت. هذا هو الزعيم المناسب. هو الآن في المكان غير المناسب. صباحي. متقلب. مارس السياسة ثم توقف. ترك (لأنصاره) الناصريين الحرية. فصوتوا. لترئيس محمد مرسي! عاد صباحي إلى ممارسة السياسة. فوضع نفسه في موضع الهزيمة الانتخابية سلفا أمام السيسي!».

تنهد الشاب مضيفا: «مكان صباحي المناسب هو على الكنبة. هنا بجواري يمارس الصمت. يتفرج على التلفزيون. يتسلى. قزقزة لب (يفتح الفتى الثلاجة بجانبه. يخرج بطيخة). صباحي مهتم بالتنمية الغذائية للشعب. خبز. فول. بطيخ. لكن يا خسارة! الصباحي عاد إلى ممارسة السياسة. يخالف مبادئ حزبنا. مبدأ الصمت». ثم... صَمَتْ.

قطعت الصمت. قلت: «صباحي لديه شيء يقوله. السياسي المحترف لا يصمت. هو يمارس السياسة. وأنتم تدمنون الصمت. فرق كبير بين ممارسة السياسة. وإدمان الصمت. نعم، الصمت أيضا سياسة. لكن بالنأي عنها ببقائكم في البيت على الكنبة، فقد خربتم بيت العالم العربي».

قال الشاب من دون أن يعي كلامي: «صمتُنا تعبير عن قوة رفضنا. ها نحن حيّدنا أوباما. ها هو أوباما على الكنبة. يتفرج معنا على سوريا وأوكرانيا. والحلال والحرام في نيجيريا».

قلت مستدركا: «تأخر الأزهر. القرضاوي. الإخوان. الظواهري... في إدانة (بوكو حرام). وصمتت طالبان وحزب الكنبة. أفتى الشيخ شيكو مفتي بوكو بأن ذهاب البنات إلى المدرسة حرام. وبقاءهن في البيت حلال. كان على حزب الأغلبية الصامتة أن يدين فضيحة اللحم الحلال والحرام. شيكو بوكو عرض بيع الطالبة بسبعة دولارات! يا بلاش! يعتقد شيكو بوكو أن هذا هو الحل الأمثل لأزمة الزواج في العالم الإسلامي».

رد الشاب بعصبية: «يا أخي. قلت لك حزب الكنبة لا يتدخل في نيجيريا. قضايا شائكة مثل الفصل في الزواج الحلال والحرام... هي من اختصاص المفتين الكبار».

غيرت الحديث قلت للشاب: «أعود إلى مسألة القيادة. ها هو العماد ميشال عون يمارس لأول مرة فضيلة الصمت على الكنبة. فهل يصلح رئيسا للأغلبية اللبنانية الصامتة؟». رد الفتى بلبنانية تقليدية: «بيني وبينك. بس ما تقول لجعجع على لساني. عون الآن على الكنبة. والويل لحسن نصر الله. والبابا. والبطرك. وأوباما. وصهره وزير الداخلية، إذا لم يقبضوا على الرئاسة. ولم يسلموه إياها قبل نهاية مايو (أيار)».

قلت بائسا: «صحيح. ربنا يستر. عون قارورة غاز على الكنبة. قابل للانفجار في أية لحظة». قال: «مرشحنا الحقيقي ميشال سليمان ليس للرئاسة. غدا تنتهي ولايته. فيجلس معنا». اعترضت: «العسكري المحترف لا يهرب. سبب انسحاب العسكري سليمان هو القرف من السياسة والساسة. ها هو إلى آخر يوم في رئاسته. يطفئ النار في غرفة الحوار، فتنتقل إلى حديقة الدار».

سألني الشاب: «لأول مرة يخوض عرب في الخليج معركة سلم وحرب في المشرق العربي. قل لي ألم يكن من صالح حذر هؤلاء أن يبقوا مع الأغلبية الصامتة على الكنبة؟».

أحزنني السؤال. قلت: «كان الأحرى بالحزب أن يغادر الكنبة. الكرة أيضا سياسة. حرب مصير. معركة كسر عظم».

لاذ الشاب بالصمت. استرسلت: «ها هي المعارضة السياسية السورية. لم تفتح فمها بكلمة واحدة عن عروبة سوريا. تجلس الآن على الكنبة في إسطنبول. تتفرج على ضباط إيران. وهم على كنبة بشار، يفاوضون بالنيابة عنه داعش والنصرة والجبهة الإسلامية للجلاء عن حمص وفك الحصار عن إشبيليا. يريدون استكمال حدود دول الطوائف. يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس».

هنا، دخلت هيفاء وهبي. واحتلت شاشة حزب الكنبة. هش الفتى وبش مرحبا ومحملقا. قال: «إنها تخطو بسرعة نحو الأربعين لكن رشاقتها ساهمت في إقناع حزب الكنبة بأن الرياضة خير من السياسة. رشاقتها أغرت حزبنا حزب الجماهير الشعبية بالجري وراء الكرة على الشاشة».

قلت وأنا أهم بالمغادرة: «وماذا فعلت بسيدات الكنبة؟» قال الشاب: «علمتهن أن الرياضة كلام في السياسة. زوجتي تمارس رياضة الجمباز واليوغا. وهي تثرثر عن حتمية الدفاع بقوة عن حقوق المرأة».