أزمة فهم الشأن القومي من منطلق محليّ

TT

من يتابع طريقة تعامل بعض الإعلام والشخصيات «العروبية» واليسارية في مصر مع محنة سوريا يفاجأ بـ«السلبية النشطة».. التي غدت تداني العداء السافر للمعارضة السورية فكرا وقيادات وممارسات.

هذا تطوّر غريب إذا ما تركنا السطح وسعينا إلى المناقشة الجدّية والتحليل في العمق. إذ انطلقت شرارة الثورة في سوريا من تبنّي السوريين شعارات التغيير في تونس ومصر. بل كان التغيير في مصر بالذات، ولا سيما شعاره الشهير «الشعب يريد تغيير النظام»، المُلهم المباشر لانتفاضة أطفال درعا في منتصف مارس (آذار) 2011.

حدث التغيير في مصر يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011، كما نعرف، لأسباب «مصرية» خالصة مرتبطة بالرفض الشعبي لوضع قائم لم يتحسّس حاجاتهم المعيشية وكان يستخف بحرياتهم السياسية الشخصية والجماعية. هذا يعني أنه لم يحدث من أجل تحرير فلسطين أو تحقيق الوحدة العربية أو الإسلامية. واليوم يؤمن قسم كبير من المصريين بأن التنظيمات الإسلامية، التي كانت المستفيد الأكبر من التغيير، إنما استغلت انتفاضة الشعب لمصلحتها بعدما ركبت موجتها... رافعةً شعارات شعبوية، ومخفية مشاريع لا توافق واسعا عليها بين عموم المصريين.

ومن جهة ثانية، لعبت القوات المسلحة المصرية في يناير دورا عاقلا برفضها قتل الشعب، فانحنت أمام العاصفة، ما حال دون وقوع مواجهات تنزلق بالبلاد إلى حرب أهلية.. وهذا ما أقنع الرئيس مبارك بترك الرئاسة بسلام. وفيما بعد، عندما تصرّف الرئيس الإخواني المنتخب الدكتور محمد مرسي بنهج أوحى بتعجّله التمكين، والابتعاد عن التفاهم الشعبي العريض الذي كان ركيزة لنجاح التغيير، تولّد في الشارع شعور بالحاجة إلى إنهاء حكمه.. وبسبب الثقة بموقف القوات المسلحة في يناير راهن كثيرون عليها باعتبارها صمّام أمان يمكن الوثوق به. وهكذا كان ما كان من تغيير ثانٍ يوم 30 يونيو (حزيران).

في سوريا أيضا كانت الانتفاضة شعبية «سورية». وظلت الانتفاضة سلمية تماما طيلة عشرة أشهر على الأقل، غير أن النظام اختار مواجهتها بالعنف والقمع منذ اليوم الأول. ثم استفاد مما بناه من هرم إمرة فعلية وولاءات «مضمونة» لألوية وكتائب بعينها من الجيش السوري، فشدّد قمعه وشن على الشعب حربا حقيقية. النظام السوري وجيشه لم يتحرّجا من قتل الشعب وضرب المدن والقرى. بل إن الولاءات الفئوية الضيّقة للجيش والأمن فضحت الدور الفعلي المرسوم للمؤسسة الأمنية العسكرية، فهما ما كانا على الإطلاق مخصّصين للدفاع الوطني وتحرير الجولان المحتل.. بل لحماية دولة بوليسية قمعية – فئوية وأطماعها ومكتسباتها.

ثم هناك فارق آخر بين النظامين المصري والسوري ومؤسستيهما العسكريتين الأمنيتين هو فارق الخطاب السياسي. في مصر كانت الشعارات «مصرية أولا»، محدودة الأفق، لا تزعم هوية «عروبية تحرّرية» ولا ترفع الشعارات الاشتراكية. أما في سوريا فكان الخطاب «عروبيا تحرّريا» ممانعا (؟) وكانت الشعارات اشتراكية بامتياز. ولكن أحداث السنتين الأخيرتين كشفت تماما زيفي الخطاب العروبي والشعارات الاشتراكية، وبيّنت أن نظام دمشق مجرد طغمة ذيلية طائفية تابعة للنظام الإيراني لا علاقة لها بالعروبة، وهو بتكوينه وممارساته مكرّس لخدمة مصالح مجموعة طفيلية احتكارية عائلية وفئوية أبعد ما تكون عن الاشتراكية.

أين نحن الآن؟ ولماذا الموقف المصري الإعلامي السلبي من انتفاضة السوريين؟

الموقف السلبي، مع الأسف، لا يقتصر على إعلام غير مسؤول بل يشمل أيضا قيادات سياسية يفترض بها التعاطف مع المظلوم والحرص على الأخوّة العربية. إلا أن أهم ما في الموضوع أن العداء الإعلامي الذي وصل الآن إلى حد الشماتة بنكبة حمص، والتغنّي علنا بـ«منجزات» النظام ضد المعارضة، يستند في قسم كبير منه إلى الاقتناع بأن ثمّة مصالح مشتركة بين «مصر ما بعد حكم الإخوان» و«سوريا بشار الأسد المناوئة للإسلاميين». ولكن أولئك الذي يصبغون انتفاضة السوريين بصبغة إسلامية أصولية، وينطلقون من ذلك، بصورة انتقامية، لتأييد الأسد وإيران بحجة أنهما «ضد الإخوان».. ينسون حقائق مؤلمة، منها:

1- إن موقف الرئيس الإخواني المعزول مرسي كان مؤيدا لمشاركة إيران في تسوية الأزمة السورية، وهو الذي اقترح وجود طهران في «اللجنة الرباعية»، مع مصر وتركيا والمملكة العربية السعودية من دون استشارة لا تركيا ولا السعودية!

2- إن مرسي اعتمد مواقف متحمّسة للتقارب مع طهران، حتى بعد انكشاف دعمها لنظام دمشق، وعمل بقوة على نقض سياسات مبارك المناوئة لها.

3- إن إيران داعم مباشر لتنظيمات الإسلام السياسي المتشدّدة، ولا سيما «الجهاد الإسلامي» وأجنحة في حركة حماس، بالإضافة إلى فصائل أخرى متشدّدة من أطياف «إسلاموية»... تخوض معها الحكومة المصرية مواجهة سياسية وعسكرية مشهودة.

4- إن العلاقات المشبوهة بين تنظيمات متشدّدة مثل «داعش» وبين طهران والنظام السوري.. ما عادت خافية على أحد. بل إن طيران الأسد الحربي الذي يدكّ أحياء المدن السورية بالبراميل المتفجّرة لم يقصف أي مواقع من مواقع هذه التنظيمات، ولا سيما في مدينة الرقة أو محافظتي الحسكة ودير الزور.

5- إن النظام العراقي – على الأقل بعضه – كان قبل الانتفاضة السورية «يتّهم» نظام دمشق علنا بتسهيل دخول مقاتلي «القاعدة» إلى أراضيه، ولعل السبب التعجيل في إبعاد القوات الأميركية عن العراق بناءً على توجيهات طهران. وهو ما يؤكد وجود علاقات بين نظام دمشق وبعض شراذم «القاعدة»، وقضية «أبو القعقاع» في هذا السياق معروفة.

6- إن وزير العدل العراقي حسن الشمّري كشف أن القوات الأمنية المسؤولة عن أمن سجن أبو غريب سهّلت هروب عناصر «القاعدة» لتعظيم دورها في سوريا وتخويف الولايات المتحدة من بديل يحل محل نظام الأسد.

هذه حقائق بسيطة حبّذا لو يطّلع عليها في مصر الحبيبة من ما زال يحكم على الوضع السوري من اعتبار انتقامي.. ومحلي ضيّق. فالمؤامرة، إذا نجحت، لن تقتصر تداعياتها الكارثية على سوريا وحدها.