خط تماس يتحدى واشنطن

TT

في أعقاب انهيار المنظومة السوفياتية عام 1991، وتحرر دول أوروبا الشرقية من نير الوصاية الروسية المتجلببة بلباس كارل ماركس العقائدي، توقع العديد من المحللين السياسيين أن تتوحد القارة القديمة، بشقيها الشرقي والغربي، بحيث يصبح الاتحاد الأوروبي يوما ما، القوة الثالثة في عالم الغد.

نحو ربع قرن انقضى على زوال الدوافع السياسية - الاستراتيجية لقسمة أوروبا شهدت خلالها توسع عضوية الاتحاد الأوروبي من ست دول مؤسسة إلى 28 دولة (بعد ضم كرواتيا عام 2013)، بينما توثقت وحدته المؤسساتية على أكثر من صعيد، بدءا ببرلمان مشترك وانتهاء بعملة واحدة...

مع ذلك، لا يزال شرق أوروبا «شرقا» وغربها «غربا» في وقت توحي فيه أزمة أوكرانيا بأنهما لن يلتقيا (إذا جازت استعارة مقولة الشاعر البريطاني الراحل رديارد كيبلنغ).

حتى إعادة توحيد شطري الدولة الواحدة، أي ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، لم يخلُ من الإشكالات، إذ لا يزال العديد من الألمان «الغربيين» يتبرمون من أعباء هذا التوحيد ويتمنون لو بقيت ألمانيا الشرقية خارج حدود ألمانيا الاتحادية.

ربما ساهمت هذه الخلفية الفاترة للوحدة الأوروبية في تشجيع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على محاولة إعادة الشرخ الإثني والنفسي بين الأوروبتين الشرقية والغربية وتوظيفه غطاء قوميا لمطامع بلاده التوسعية في أوكرانيا.

هل ينجح الرئيس بوتين في تحويل الحدود الروسية - الأوكرانية إلى خط تماس جديد بين شرق أوروبا وغربها؟

بمنظور دبلوماسية الأمر الواقع، لا يبدو وضع أوروبا اليوم مختلفا كثيرا عما كان عليه في سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية، رغم تبدل بعض الأدوار.

في ثلاثينات القرن الماضي شكلت طفرة المشاعر القومية «المطية» الأبرز لطموحات النظام النازي في أوروبا، وأدولف هتلر لم يقصر لحظة في ركوب موجة العرقية الآرية للمطالبة بضم مناطق تجمع الأقليات الألمانية في الخارج إلى «الوطن الأم» كمبرر «قومي» لتوسيع حدود ألمانيا شرقا وجنوبا (باتجاه النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا).

واليوم يضرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على النغم نفسه بتوسله الحضور الروسي خارج بلاده مبررا للمطالبة بضم مناطق الانتشار الروسي في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا (وربما دول البلطيق لاحقا) إلى «الوطن الأم».

قد تبدو مقارنة دبلوماسية روسيا الشوفينية بدبلوماسية ألمانيا النازية سهلة في الظاهر، لكنها غير واقعية في ظل تبدل المعطيات الدولية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية وانهيار الإمبراطورية السوفياتية، وأبرزها دخول عامل خارجي مؤثر على المعادلة الأوروبية - الأوروبية يتمثل بالحضور العسكري الأميركي القوي في أوروبا في إطار حلف شمال الأطلسي. وذلك يعني، بأي حساب عسكري واقعي، أن خط التماس الأوروبي الجديد يبدأ في أوكرانيا وينتهي في الولايات المتحدة.

لذلك، تثير هذه المعادلة العسكرية الأميركية - الأوروبية تساؤلا جديا عما إذا كان ما يمارسه الرئيس بوتين من عمليات قضم وهضم ممنهجين لأراضي «جارته القريبة»، أوكرانيا، تتعدى أطماع روسيا التوسعية إلى اختبار مدى التزام الولايات المتحدة بحلفائها الأطلسيين - وخصوصا الجدد بينهم مثل دول البلطيق الثلاث - في وقت لا تبدي فيه إدارة الرئيس أوباما حماسا يذكر للتورط في مغامرات عسكرية خارجية.

ولكن، مع التسليم بأن دبلوماسية الرئيس الأميركي أوباما تتمحور حول تجنب التورط في حروب خارجية، فإن لأوروبا حسابات خاصة كونها الحليف التقليدي للولايات المتحدة «في السراء والضراء». وقراره، الرمزي، بإرسال 600 جندي «أطلسي» إلى إستونيا يعكس إلى مدى بعيد تفاوت حسابات الحزم الأميركي في الخارج بين حالة وحالة (سوريا مثلا).

باختصار، قد تكون أزمة أوكرانيا فرصة الرئيس أوباما الثمينة لأن يثبت لبوتين أنه لا يزال رئيس دولة عظمى.