حفتر والانقلاب على الإرهاب

TT

إن كان حديث فرضيات المؤامرة يوحي بالتوجس المفرط تجاه الآخرين، فإن بعض الأحداث تستدعيه، كما هو واقع الحال في ليبيا الذي بات مرعبا ومهددا لدول الجوار وما جاورها. فكيف يمكن للدول الغربية؛ أميركا والاتحاد الأوروبي، تكرار التجربة العراقية في ليبيا عمدا بسبق ترصد وإصرار، من خلال التدخل العسكري الضاري لإسقاط نظام القذافي في 2011، ثم التولي مسرعة إلى الخارج تاركة خلفها بلدا آيلا للسقوط أنهكته الحرب، مليئا بالأسلحة والثروات؟ الغرب وضع الليبيين المتعبين أمام فتنة السلطة والمال، وتركهم ليضرب بعضهم رقاب بعض.

كل ما حصل في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي كان منقوصا، الانتخابات البرلمانية تأتي بأعضاء بعضهم تحوم حوله شبهة الموالاة أو التحالف مع تنظيمات متطرفة، ثم حكومات يشوبها الضعف والفساد، وجو عام من انعدام الثقة بالرموز السياسية، وغياب قيادة قوية يلتف حولها الليبيون.

كتبت سابقا في مساحتي هذه مقالة حول ليبيا وحاجتها لوجود «ضامن» خارجي يوحد الأطراف الداخلية المتنازعة، ويكشف أوراقها لليبيين وللرأي العام الدولي. هذا الضامن سيحرج المتطرفين ويتركهم خارج اللعبة السياسية، لأنهم غالبا لن ينخرطوا في أي اتفاقية تدين العمليات الإرهابية. مشكلة ليبيا أن الجميع تخلى عنها، العرب والغرب، وفي غياب حكومة مركزية قوية كان من المرجح أن تتشكل الجماعات والميليشيات، سواء المتطرفة لفرض مناطق نفوذ لها، أو الوطنية القبلية التي تحمي أمن مناطقها.

من حسن، وسوء حظ مصر، أنها مجاورة لليبيا في وضعها الحالي اليوم، لأنها من ناحية تعاني تهريب السلاح من ليبيا إلى داخل الأراضي المصرية، وخاصة سيناء حيث جماعة «أنصار بيت المقدس» التي تمارس إرهابا منظما. إنما تطور الأحداث أخيرا في ليبيا يوحي بتحرك إيجابي يقوده اللواء خليفة حفتر، الذي اعتاد قيادة الجيوش منذ 25 سنة، ولديه خلفية قيادية معتبرة. وأقول إن من حسن حظ المصريين أن تحرك حفتر في هذه الفترة، ولو قدر له النجاح فسيكون الداعم الأكبر لاستقرار مصر، أمنيا واقتصاديا، بحسب الرؤية التي يحملها الرجل عن أهمية علاقته بمصر الجديدة التي يأمل أن يحكمها رجل قوي وجريء مثل السيسي.

هناك جهتان إن تحركتا سيضمن حفتر بسط يده على المناطق التي يسيطر عليها المتشددون خاصة في شرق ليبيا، وسيضمن موقعا له في قيادة ليبيا خلال الفترة المؤقتة التي تسبق ترسية النظام السياسي على أصوله الصحيحة. الجهة الأولى هي القبائل الليبية التي كانت متعاطفة مع نظام القذافي، لكنها لم تكن بالضرورة مؤيدة له، فالنظام القبلي لا تحكمه وحدة الفكر، بل علاقات التاريخ والجيرة والمصاهرة والمعاهدات الشخصية والانتماء. إضافة إلى القبائل التي اشتغل أبناؤها مع نظام القذافي في إداراته المختلفة من دون أن يتورطوا في أعمال تتنافى مع القانون. هؤلاء رغم أنهم يشكلون معظم الكثافة السكانية، فإن مساهمتهم في بناء ليبيا الجديدة ألغيت بسبب قانون العزل السياسي، الذي رسم خطا فاصلا بين الكثير من فئات المجتمع الليبي، وظلمت من خلاله شخصيات وكتل بشرية واسعة خسرتها ليبيا؛ إما بتجميد نشاطها أو بدفعها إلى الهجرة خارج البلاد. هذا القانون خلق أعداء من لا شيء، وحمل فصائل من الشباب على التسلح والدفاع عن أنفسهم وحقهم في مقدرات البلاد، في وقت كان من المفترض ألا يكون هناك قانون ينظم حقوق الناس سوى القانون المبني على مبدأ الشرعية، الذي يقول إنه لا عقوبة ولا جريمة بلا نص. دعوة حفتر لهؤلاء للانضمام إليه عبر كسر حاجز العزل، سيجعل له ظهرا قويا، وسيبدو أمام الليبيين أنه رجل يحتكم إلى القانون ولا يجرم أحدا بلا جريمة.

الجهة الثانية هي الدعم الغربي، الأوروبي والأميركي، وهذا الدعم هو كفارة خطيئتهم بهجران ليبيا والتخلي عنها للتنظيمات المتطرفة؛ «القاعدة» وفروخها. والدعم أولا معنوي، يتمثل بمنح الثقة للواء حفتر والتصريح بتأييد موقفه من محاربة الإرهاب والجماعات المسلحة، وعلى رأسها «أنصار الشريعة» التي انضمت إلى قائمة الإرهاب الأميركية قبل عام، وإدانة كل من يتواطأ أو يستعين بهذه التنظيمات لفرض وجوده السياسي في البرلمان أو الحكومة.

اللواء حفتر يقود انقلابا على الإرهاب الذي تنفذه ميليشيات إسلامية متطرفة، نصب نفسه زعيما لهذه المعركة بعد أن وصل الفساد بالسياسيين إلى أن يتحالفوا مع المتشددين المسلحين لضمان مواقعهم في إدارة البلاد، وبعد أن أصبح للجماعات المسلحة المتطرفة والطامعة مدن ومناطق نفوذ. كان الراحل القذافي يخشى أن يشكل جيشا حتى لا ينقلب عليه، إنما انهار نظامه بفعل الاحتقان والظلم وليس بقوة العسكر. اليوم، الجيش الليبي يحاول أن يستعيد البلاد من مرتزقة الحروب، وهو بحاجة للسياسيين الشرفاء والمواطنين المؤمنين بأهمية عملية الإنقاذ التي يقوم بها، لذلك كان لإعلان تأييد «تحالف القوى الوطنية»، الذي يتزعمه السياسي المحنك محمود جبريل للواء حفتر، أثر كبير في تغيير الصورة الذهنية لدى الأوروبيين والأميركان حول ما يجري اليوم في ليبيا.

أما العرب، فعليهم ألا يكرروا هم أيضا تجربة الصومال وإخفاقهم في احتواء مشكلاتها، حتى باتت زاوية من الحي العربي موبوءة بالتطرف، ومصدر تهديد لكل المنطقة. لليبيا حق العروبة على كل العرب، بدءا من مؤسسة جامعة الدول العربية التي لم نسمع لها ركزا، وحتى المواقف المنفردة من الدول ذات المواقف العروبية.

الرسالة التي يحاول الليبيون تبليغها لإخوتهم العرب ألا تتخلوا عن ليبيا في هذا الوقت المأزوم، فلا الانتخابات المنتظرة، ولا الدستور الجديد، يمكن أن يحققا الاستقرار إن كانت الدولة تدار تحت التهديد بالسلاح.

[email protected]