دبلوماسية.. «الاتكال على الله»

TT

إذا كان ثمة رسالة من الزيارات شبه المكوكية لكل من الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ووزير خارجيته جون كيري، إلى المناطق الساخنة في العالم.. فلا يبدو أن هذه الرسالة تتجاوز نصح الدول المعنية بموقف واشنطن بالاتكال على الذات، بعد الله عز وجل، في تخفيف مخاوفها وحلحلة أزماتها.

هذه، مثلا، هي الرسالة التي خلفتها زيارة الرئيس أوباما إلى بولندا القلقة على استقلالها بعد أن «نفدت روسيا بجلدها» - وجرأة رئيسها فلاديمير بوتين - من فرض أول تعديل قسري لحدود دولة أوروبية (أوكرانيا) منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كأمر واقع على العالم أجمع.

بولندا - التي كانت على مر التاريخ «جائزة ترضية» في حروب فرنسا وألمانيا مع روسيا - كانت تتطلع إلى موافقة الرئيس أوباما على تمركز قوة من حلف شمال الأطلسي بشكل دائم في أراضيها، كقوة ردع، معنوية على الأقل، في وجه مخطط الرئيس بوتين لاستعادة النفوذ الروسي في دول المنظومة السوفياتية السابقة. ولكن أقصى ما حصلت عليه بولندا من الرئيس الأميركي كان وعدا بتخصيص مليار دولار أميركي لتمويل عمليات تناوب للفرق العسكرية وتكثيف برامج التدريب العسكري للقوات البولندية وإجراء مناورات مشتركة معها.

وبالنسبة إلى سوريا، تركت إدارة أوباما الثورة وحيدة في مواجهة آلة القتل والدمار الضخمة للنظام وفشلت كل محاولات «الائتلاف الوطني» المعارض لإقناعها برفع الحظر عن تزودها، مباشرة أو غير مباشرة، بسلاح نوعي يوفر لها فرصا أفضل للصمود. إلا أن أمل الفصائل السورية (الموصوفة بالمعتدلة) بالانتقال من حالة الاتكال على الله إلى حالة الاتكال على الغرب، يبقى قائما بسبب تخوف واشنطن من أن تفرز الحرب الأهلية في سوريا مدا إرهابيا يتجاوز حدودها وحدود منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يفسر «تردد» واشنطن في اتخاذ موقف حاسم من موضوع تسليح المعارضة السورية المعتدلة.

بالنسبة للرئيس أوباما، إذا لم يكن أمن أميركا ومصالحها معرضين بشكل مباشر للخطر، لا موجب عليها للتحرك بمفردها لمواجهته، ودون مؤازرة حلفائها. وحتى في هذه الحالة لن تكون واشنطن متحمسة للتدخل المباشر قبل تيقنها من أن مردود اللجوء إلى القوة سيكون إيجابيا على الأرجح.

وعليه، إذا كان إقدام ديكتاتور ما على قمع انتفاضة شعبه بقوة السلاح يشكل تحديا سافرا لمبادئ الأميركيين الديمقراطية، فهو لا يشكل خطرا مباشرا على أمن الولايات المتحدة ومصالحها.

أما في لبنان، فقد كانت الرسالة التي نقلها جون كيري إلى اللبنانيين أخيرا بوجوب الاتكال على الذات، بعد الله طبعا، بمنتهى اللطف والوضوح ومختصرها المفيد: لا تأملوا بالاتكال علينا، ولا على أي دولة إقليمية أيضا، لإخراجكم من مأزق من صنع أيديكم: خلافكم على اختيار رئيس جديد لدولتكم.

غير خاف أن خلفية هذه الرسالة مردها قناعة الإدارة الأميركية من أن كل الجهات المؤثرة على الشأن السياسي في لبنان، سواء كانت واشنطن نفسها أو عواصم الدول الإقليمية، ليست حاليا في وضع يتيح لها «التفرغ» لمعالجة مشكلات لبنان الداخلية. لذلك، ورفعا للعتب، اكتفت إدارة أوباما بأن تقدم للبنان ما تستطيع تقديمه من دعم لا يشكل تحديا سافرا لأحد: 290 مليون دولار.. إضافة إلى نصيحة ودية لكل من روسيا وإيران وحزب الله بوضع حد للحرب في سوريا.

رب ضارة نافعة.. بمعنى أن الرسالة الأميركية، والوضع الإقليمي الراهن، من شأنهما مساعدة اللبنانيين على بلوغ سن الرشد و«لبننة» الاستحقاق الرئاسي تبقي مناوراتهم السياسية في نطاق «التشاطر» على الذات فحسب.

بالنسبة إلى شعب عُرف عنه اتكاله المفرط على الله في كل أمر يقدم عليه، قد تكون رسالة كيري فرصته التاريخية لاختبار استقلالية قراره الداخلي عن الخارج.