أوكرانيا والهواجس «الجيوسياسية» الروسية

TT

قامت دبلوماسية الردع في روسيا السوفياتية إبان الحرب الباردة على مبدأ «نصافح بيد ونحمل الحجر باليد الأخرى»، إلا أن قيصر روسيا الجريح في أوكرانيا فلاديمير بوتين، حين صافح نظراءه الدوليين، وخصوصا الأوروبيين، في الذكرى السبعين لنزول الحلفاء على شواطئ النورماندي، كانت يده الأخرى خالية من أي رادع استراتيجي فعلي كالذي اعتاد أسلافه السوفيات استخدامه كحجر الزاوية في بناء علاقاتهم الدولية. قبيل وصول زعماء العالم إلى النورماندي عقدت في بروكسل وللمرة الأولى منذ 17 عاما، قمة اقتصر فيها عدد قادة مجموعة الدول الصناعية الكبرى في العالم المعروفة بـG8 على سبعة أعضاء، بعد قرار استبعاد روسيا، وإلغاء القمة التي كان من المقرر عقدها في مدينة سوتشي الروسية، عقابا لروسيا على سياستها اتجاه التغيرات الأوكرانية، ورفضا لضم شبه جزيرة القرم إليها. ففي قمة السبع في بروكسل، وحسب بيانها الختامي، حصل الرئيس الأوكراني الجديد بيوتر بوروشينكو على الدعم المباشر من الدول المجتمعة، ورحب المجتمعون بالانتخابات الرئاسية الأوكرانية، وأعلنوا وقوفهم إلى جانب الحكومة والشعب الأوكرانيين في مواجهة التدخل غير المقبول من روسيا في الشؤون الأوكرانية، والعمل على دعم الاقتصاد الأوكراني ومساعدته على استعادة عافيته، وتشجيع السلطات الجديدة في كييف على إعادة فرض الأمن والقانون في شرق البلاد، مما أمّن لبوروشينكو مساحة دولية كبيرة لدى زعماء العالم المشاركين في ذكرى إنزال النورماندي، وأجبر بوتين على مصافحته، كبادرة اعتراف شرعي بانتخابه، والنقاش معه حول الأوضاع الأوكرانية دون محاولات إملاء أي شروط، وقد اقتصر الحديث المقتضب الذي دار بينهما على ضرورة البدء بالحوار، والعمل معا على تخفيف حدة التوتر شرق البلاد، حيث تستخدم روسيا الانفصاليين الموالين لها، في الضغط على حكومة كييف الجديدة ذات التوجهات الغربية. وفي خطاب التنصيب أمام البرلمان الأوكراني، مرر بيوتر بوروشينكو رسائل سياسية واضحة صريحة وقاسية لموسكو، فعلى الرغم من تأكيده أنه «لا يريد الحرب ولا يريد الانتقام»، وأن «مواطني أوكرانيا لن ينعموا بالسلام ما لم نرتب علاقتنا مع روسيا»، فإنه في المقابل أكد أنه لن يتخلى عن «سكان شرق أوكرانيا تحت أي ظرف من الظروف»، رافضا «الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم»، معتبرا أنها «أراض أوكرانية محتلة»، مؤكدا عزمه على «توقيع الشق الاقتصادي من اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي»، واضعا الثوابت السياسية لأوكرانيا الجديدة، حيث «لن تكون هناك مساومة على وحدة التراب الأوكراني، وعودة القرم، والخيار الأوروبي، ونظام الحكم الجديد».

في النورماندي قرأ بوتين ملامح خروج أوكرانيا من خارطة طموحاته الأوروآسيوية، وأن الوقائع السياسية تصعب عليه الالتفاف على المتغيرات الدولية، بعد فشل كل محاولاته تعطيل التحول الأوكراني اتجاه الغرب، ونفاد أوراق الضغط التي يمكن استخدامها، من الأمنية عبر الانفصاليين، أو الاقتصادية عبر الغاز، وخصوصا بعد تلويح الاتحاد الأوروبي بتجميد العمل بمشروع أنابيب «المسيل الجنوبي» من أجل الضغط على موسكو وقف تدخلها في أوكرانيا، يضاف إليه سياسية عزل الكرملين والتلويح بعقوبات شديدة، واستمرار تدهور سعر صرف الروبل أمام العملات الأجنبية، مما ساعد على عودة منظومة القلق الروسي ببعديه «السلافي - الأرثوذكسي» من الغرب والكثلكة، المتوارثة منذ زمن القياصرة مرورا بالسوفيات الشيوعيين وصولا إلى الآن.

ومنظومة القلق هذه تزيد من تعقيدات قضية ثقة روسيا بالغرب، المتهم دائما باستهداف الأمة الروسية سياسيا، ثقافيا وعقائديا، والذي يقترب تدريجيا من حدودها عبر وسائل اقتصادية وعسكرية، وأخرى مرتبطة بديمقراطيات ناشئة كانت جزءا من المنظومة الاشتراكية، وتملك ذاكرة ملأى بالأحقاد والأوجاع على ما تعتبره استعمارا سوفياتيا استمر عقودا، وهي تقف إلى جانب من يساعد على ردعه ومحاصرة طموحاته لو حاول العودة مرة جديدة. أصبحت الحدود الأوكرانية بالنسبة للروس مواقع افتراضية للناتو، مما يشكّل تهديدا جديا لأمن القومي الروسي ويعيد إلى ذاكرة الروس تحالفات الحرب الباردة ودور الفاتيكان في زمن يوحنا بولس الثاني، الذي لم ينحصر بمحاربة الشيوعية، بل بمحاولة حصار الأرثوذكسية، ويغذي النزعة القومية الأوروبية اتجاه السلافية التي تشكّل الآن ركنا أساسيا ضمن أدوات إعادة إحياء الامتداد الجيوسياسي القيصري - الروسي وتطوير أدواته القديمة.