جنون الكرة!

TT

لا أعرف مناسبة «تأسر» عقول متابعيها على القدر الذي تستطيع عمله مسابقة بطولة كأس العالم المقامة حاليا في البرازيل. والأهم من قدرتها على ذلك هو استمرارها وتوسع دائرة نجاحاتها بأضعاف مضاعفة سواء أكان ذلك بالانتشار الجغرافي أم العوائد المالية المهولة. العرب يتوحدون حول «الفرق» أو «الفريق» الذي يمثلهم، فيتناسون خلافاتهم تماما وتوحدهم الكرة في كأس العالم، بل إن الانتماءات المذهبية والطائفية والدينية والحزبية «تتجمد» مؤقتا في معظم بقاع العالم لمصلحة فرق بعينها يتم تشجيعها بشكل هستيري مثل البرازيل، ألمانيا، إيطاليا، الأرجنتين، فرنسا، إسبانيا، وهولندا حتى يشعر المرء المتابع لهذه الظاهرة أن هذا الانتماء «الخاص» هو أشد قوة من الانتماء الوطني نفسه.

والبطولة هذه ولأنها تعقد مرة كل أربعة أعوام ففيها قدر لا يستهان به من الشوق واللهفة والانتظار الجميل (مع أن هناك محاولات مضنية لجعل البطولة تقام كل سنتين وذلك من أجل مضاعفة الإثارة والتشويق وطبعا مضاعفة الأرباح المادية التي من الممكن الحصول عليها في حال إقامتها بشكل متتالٍ وفي مدة أقصر)، ولكن هناك من رأى أن «حماية» البطولة تعني عدم الابتذال بالمناسبة الرئيسية الكبرى نفسها بشكل مضر. وتحولت مع الوقت هذه البطولة إلى أكبر «حملة» ترويجية للبلاد المستضيفة للبطولة وإلى بعض الدول التي تحولت فرقها إلى سفراء متنقلين كانوا بتألقهم سببا مباشرا في رفع نسبة وحدود الدراية بالبلاد التي يمثلونها وكانوا بالتالي أحد أهم الأسباب التي رفعت من منسوب حركة السياحة إلى بلادهم ومن ثم الاستثمار فيها وتبادل التجارة معها. فمن كان على مستوى العالم يعرف بالكاميرون من قبل إبداعاتها في البطولة ورقص مهاجمها الفذ روجيه ميلا، ومن كان يدرك المعلومات الكافية عن كرواتيا قبل تألقها المفاجئ وتفوق نجمها الكبير «شوكر»، ورومانيا وبلغاريا والجزائر وكوريا الجنوبية والمغرب وتونس.

ومع الوقت تحولت البطولة إلى فرصة لدول الجنوب أو العالم الثالث أن يواجهوا ويستعرضوا ويقهروا في مفاجآت مذهلة دولا مهمة من العالم الصناعي الأول سواء كانوا مستعمريهم السابقين أو أعداء الأمس، فتكون الرياضة وبكل روح رياضية فرصة لإثبات الذات وإرضاء النفس دون إراقة الدماء أو زهق للأرواح.

بطولة كأس العالم رغم ظاهرها الرياضي والكروي تحديدا فإنها تحولت إلى عرس ثقافي ومهرجان اجتماعي يتعرف الناس حول العالم عن الدول المشاركة وبعض الحقائق والإحصاءات والبيانات والمعلومات عن دول نظريا لن يكونوا قد وردت لهم الفرصة لمعرفة هذه المعلومات في ظروف أخرى، والبطولة أجبرت كل من يتعامل معها على تحدي القدرات الإبداعية وتخطي حدود التقليد المتبع سواء كان ذلك في الإعلام والتغطية التلفزيونية المبهرة أو مجال الدعاية والإعلان، حتى مجال التحكيم طاله التطور التقني وأصبحت هناك وسائل أفضل لتقييم الأخطاء والتأكد من تسجيل الأهداف بصورة عادلة وسليمة، وطبعا الإبداع يتواصل في التخطيط للملاعب وبنائها وكذلك في الجوانب الأمنية والجوانب المتعلقة بإدارة الحشود والمناسبات التي دائما ما تكون في بطولات كأس العالم بمثابة أحدث ما توصلت إليه الإبداعات الإنسانية والتقنية العالية المصاحبة لها.

بطولة كأس العالم ليست مجرد مناسبة كروية فقط، ولكنها صناعة متكاملة ومهولة الحجم تحركها مصالح اقتصادية من الصعب قياسها ولكنها في غاية الأهمية وهي التي تجعل أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية يتابعون بشغف كبير ولمدة شهر كامل كرة القدم وكأنها مخدر أدمنوا عليه.