صديق العمر!

TT

لا أعرف ثقافة معاصرة يتسمر معظم أبنائها أمام شاشات التلفزيون في موسم معين، كما يفعل العرب في رمضان أمام المسلسلات الرمضانية، هذا العام ليس استثناء، وبصفتي منتميا إلى تلك الثقافة فلست أيضا استثناء، وإن كنت مقلا. ربما كثير من العرب انجذبوا للنموذج التركي والسياحة في تركيا في السنوات الأخيرة ليس عن دارسة معمقة للنموذج، بقدر ما هو إعجاب بالمسلسلات التركية. هذا العام فيض من المسلسلات العربية كثير منها لا يسمن ولا يغني على أقل تعبير متحفظ، إلا أن من بينها واحدا هو «صديق العمر» الذي يوصف علاقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالمرحوم المشير عبد الحكيم عامر. ولأسباب كثيرة، منها موقع مرحلة عبد الناصر في تطور التاريخ السياسي العربي، وأيضا منها موقع مصر التي ما زالت شريحة من نخبها تحن إلى ذلك التاريخ، مضاف إلى ذلك ما تركته صيغة عبد الناصر السياسية في المخيال العربي حتى اليوم.

أصبح المسلسل الذي أخرجه المخرج عثمان أبو لبن وقام بتمثيل أدواره نخبة من الممثلين المقتدرين، معالجا زاوية قلت معالجتها في السيرة الناصرية، وهي أحداث الانفصال السوري عن مصر (الجمهورية العربية المتحدة)، كل تلك العوامل تجعل من مشاهدة ومناقشة هذا العمل الدرامي في مقدمة الاهتمام.

بالطبع العمل كدراما ليس بالضرورة طبق الواقع، لذلك ظهرت اعتراضات من أسر الأشخاص، ومن مهتمين بالشأن العام على بعض تفاصيل ذلك العمل، وهو أمر طبيعي في أجواء ثقافتنا العربية التي نعرف، فالتعرض لخصوصيات من جعلهم البعض في مكان فوق النقد وفوق الخطأ، يعرض أصحاب العمل إلى الكثير من النيران النقدية وربما القضائية.

إلا أن زبدة العمل والخلاصة التاريخية الأهم تفرض علينا ونحن نشاهد هذا المسلسل، سؤالا حيويا ليست له علاقة بالماضي فقط، بل بالحاضر، حيث ما زالت نتائجه تؤثر في سياق التطور العربي، وما أصبح عليه العرب اليوم من ضعف، والسؤال فرضته العلاقة المعقدة (الإنسانية والعملية)، بين صاحب القرار على رأس السلطة (عبد الناصر) وبين (الصديق اللدود عبد الحكيم عامر!) وكيف يمكن لمثل هذه العلاقة المعقدة (الإنسانية - العملية) أن تؤدي في حال عدم ضبطها من خلال مؤسسات، إلى انهيار دول، وضياع أحلام وتعريض مجتمع، بل منطقة بأسرها، إلى شرور كان يمكن تفاديها.

والسؤال هو: هل تدار الدولة على قاعدة «أحب وأكره» أو قاعدة «صديقي لا أستطيع التخلص منه حتى لو أخطأ، وحتى لو كانت أخطاؤه ضخمة وأدت إلى انفصال وتفكيك دولة»؟

وجع الانفصال وقتها بين شطري الجمهورية العربية (سوريا ومصر) 26 سبتمبر (أيلول) عام 1961 نجد صداه في الأدب أيضا، وما رائعة المرحوم يوسف السباعي «جفت الدموع» إلا واحد من الأعمال الأدبية التي شرحت ذلك الوجع بمشرط الفنان الحاذق.

أعود إلى صلب الموضوع، وربما أبدأ بالتذكير بقاعدة ذكرها هنري كيسنجر في مذكراته، عندما استشاره الرئيس نيكسون في تشكيل مجموعة الوزراء المعاونين للرئيس في النظام الأميركي، قال له كيسنجر، تستطيع أن تُكون فريقا من العباقرة فهم كثر، ولكن دون أن يكونوا فيما بينهم «فريق عمل متعاونا teem work» فإن جماعة من هؤلاء لن يؤثروا كثيرا!!

لم يكن سرا وقت حكم الرئيس عبد الناصر أن الحديث كثر حول «أهل الخبرة وأهل الثقة» طبعا الشعار نفسه مضلل ولا يزال، فليس من المحتم أن يكون أهل الخبرة هم بالضرورة أهل عدم ثقة! ولكن الذي حصل أن الكفة رجحت إلى أهل الثقة في إدارة الشأن العام، وكانت بعض الكوارث ناجمة من هذا التوجه المميت، وأحسب أن ذلك ما زال قائما في الإدارة العربية، لأن القضية هي ثقافة وليست إرادة واعية لتسيير الشأن العام.

واضح أن عبد الحكيم عامر كانت تنقصه الكفاءة، طبعا ليس وحده، واضح أيضا أن عقلية تركيب الإدارة لدى عبد الناصر هي وضع «المتناقضين» أو «المتنافسين» ضد بعضهم، حتى لا يتفقوا على الثالث «الرأس»، فقد وضع عبد الحكيم على رأس التسيير في الإقليم الشمالي عسكريا، ووضع عبد الحميد السراج على رأس التسيير سياسيا أو قل مخابراتيا، الاثنان يكنان الولاء المطلق للرئيس (وهذا هو المطلوب) ولكن التناقض بينهما بالغ العمق، على الأقل في اجتهادات التسيير، إضافة إلى شهوة التحكم وسلطان الحكم، حتى أدى هذا التنافس بتجربة الوحدة إلى التفكك. لدينا في الواقع شهادة مطولة أدلى بها في السنوات الأخيرة عبد الكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير في دمشق إلى قناة «الجزيرة»، وهو «من سمي بقائد انقلاب الانفصال» وهي شهادة بعد سنوات من وقع الحدث وبعد تقلبات مريرة شهدتها سوريا، زبدة المقابلة في أكثر من حلقة أن الصراع كان بسبب وجود رأسين في الإقليم الشمالي (السراج وعبد الحكيم).

أظهر المسلسل بشكل جلي نقاط ضعف عبد الحكيم عامر الأكثر عمقا، وهو ولاؤه المزدوج لرئيسه من جهة، وأيضا مرؤوسيه من جهة أخرى، حتى تحولت القيادة تحت إمرته من قيادة عسكرية إلى شللية. ويظهر المسلسل محاولات عبد الناصر خاصة، بعد الانفصال وظهور أعطاب في قيادة المشير، تغيير تلك القيادة، إلا أنه يصدم بمواقف المشير الولائية، كما يصدم بعاطفته التي تشده إلى «صديق العمر»، وفي كل مرة يقدم المشير فيها استقالته، بعد خلاف، يعود من جديد عنها بسبب استرضاء عبد الناصر له، حتى قاد الكر والفر ذاك إلى كارثة حرب يونيو (حزيران) 1967 التي، مرة أخرى، سول البعض للنظام أنها «نكسة» وليست «هزيمة»، والتعابير هنا والمصطلحات في الحروب لها أهمية المعدات الحربية، فصار الإعلام وحتى المسؤولون عنها مصدقين بأنها «نكسة»! لا هزيمة.

التاريخ يكتب من خلال سلسلة من الإخفاقات أو النجاحات، ما نتج عن هزيمة يونيو كان كارثيا بكل المعنى المفهوم، ليس لمصر فقط، ولكن لكل المشروع العربي، فخرجت من عباءة الهزيمة أفكار سياسية لها علاقة بالخرافة والأساطير، كما نتج عنها تدهور في التعليم بسبب الاسترضاء الذي وقع تعويضا لبعض القطاعات الشعبية، فأصبح الكم أهم من النوعية في التعليم، وهكذا تدحرج التدهور، حتى قاد إلى أن يقرر الحكم الناصري تثبيت السادات «الموافق والمطيع» من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، نائبا للرئيس، وعندما تدخل القدر، أصبح رئيسا والقصة الباقية معروفة.

من الصعب، بل من غير الأخلاقي توزيع اللوم، ونحن في مقاعد الجلوس، على هذا أو ذاك من الناس، ولكن المؤكد أن التاريخ يقدم لنا بعض الدروس، وإن كان ثمة درس واحد يظهر على السطح فهو ما يمكن أن نستخلصه من وقوع كارثة عند قيادة المجتمعات عند الخلط بين العاطفة تجاه شخص وكفاءة ذلك الشخص للعمل العام المنوط به، وتلك كارثة تنام اليوم في أكثر من مخدع من مخادع السلطة العربية، مما يؤكد أن العرض مستمر!!

آخر الكلام:

المرحوم أنور عكاشة، الكاتب الكبير، كان دائما ما يظهر الموظف المرتشي في مسلسلاته وفوق رأسه في المكتب صورة الرئيس السادات، ويظهر الموظف الرافض للرشوة والمهتم بعمله وعلى رأسه في المكتب صورة عبد الناصر!!