سياسات واشنطن الشرق أوسطية بعد الانتخابات النصفية

TT

بعد قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما الإحجام عن التحرك ردا على تصعيد النظام السوري حربه المفتوحة على شعبه، أخذ متابعو الوضع في المنطقة العربية يعيدون تقييم سياسة البيت الأبيض الشرق أوسطية. هذه السياسة مرشحة بعد انتخابات منتصف الولاية الرئاسية (أو الانتخابات النصفية) التي أجريت أمس لتغيرات تتفاوت التقديرات بشأنها. أما الشيء الوحيد المؤكد قبل إعلان نتيجة هذه الانتخابات، فهو أنه سيخرج منها بوضع أضعف داخل الكونغرس في السنتين الأخيرتين من حكمه.

عادة، تأتي نتيجة انتخابات منتصف الولاية سلبية للرئيس وحزبه لأنها تكون فرصة للاعتراض. ومع أن السياسة الداخلية، لا الخارجية، تعد العامل الأهم في حسم الانتخابات، فإن من الأمور المؤثرة «المزاج العام» للناخبين، وشعورهم بالارتياح أو القلق إزاء هذه المعالجة أو ذلك النهج. وكثيرا ما يصب الشعور العام بالارتياح Feel Good Factor لمصلحة الرئيس بصرف النظر عن أخطاء قد يكون يكون ارتكبها قاتلة فيما لو كان المزاج سلبيا والشعور العام سيئا. واليوم، ثمة ما يعكر مزاج الناخب مثل تنامي خطر الجماعات الجهادية والتكفيرية الإسلامية في الشرق الأوسط، وتهديد وباء «إيبولا»... ولئن كان لسياسات أوباما صلة بتنامي خطر التكفيريين، فهو حتما غير مسؤول عن «إيبولا».

بالنسبة للشرق الأوسط والعالم العربي، كانت هناك مفاصل عدة كفيلة بإقناع متابعي الشأن الأميركي من العرب بوجود سلبيات بدأت تشوه «صداقات» واشنطن العربية، أبرزها:

أولا، الركاكة في مواجهة العناد الإسرائيلي بموضوع الاستيطان، ما أضعف رصيد قوى الاعتدال في الجانب الفلسطيني بقيادة الرئيس محمود عباس، وتمتين علاقات إيران بالفصائل الإسلامية المسيطرة على قطاع غزة.

ثانيا، التخلي بسرعة عن نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر مع إطلالة «الربيع العربي». ومن ثم، تشجيع قوي الإسلام السياسي في عدة دول عربية على تصور حدوث تبدل جذري في تفكير السياسة الأميركية تجاه مسألة توليها السلطة.

ثالثا، تسريع الانفتاح على طهران، ولا سيما بعد تولي حسن روحاني الرئاسة، على الرغم من مراوغتها المتطاولة في الملف النووي، والقلق العربي من التمدد الإيراني في المنطقة وهيمنة طهران على العراق وسوريا ولبنان، ثم اليمن. وكان كشف النقاب عن المفاوضات الدائرة في مسقط تطورا مهما على هذا الصعيد.

رابعا، تبني واشنطن، ضمنيا ثم فعليا، وجهة النظر الروسية - الإيرانية إزاء الأزمة السورية، وتحويلها الأزمة برمتها إلى «مواجهة إرهاب داعش»، مع أن خطر التنظيم لم يظهر إلا بعد سنتين على الأقل من القمع الوحشي الذي مارسه النظام بلا ردع أو عقاب. ولقد أدى رفض واشنطن تزويد «الجيش الحر» بأسلحة نوعية، ورفضها فرض «مناطق حظر طيران» وملاذات آمنة، إلى جعل «الجيش الحر» أضعف الأطراف المتقاتلة على التراب السوري، مقابل انتزاع «داعش» زمام المبادرة في شرق سوريا وشمالها، وتقدم «جبهة النصرة» (المرتبطة بـ«القاعدة») في الجنوب والغرب، بل تهديدها آخر معاقل الثوار المعتدلين في شمال سوريا الغربي.

في وقت سابق من هذا العام، بعد إخفاق مناصري إسرائيل في كبح اندفاعة البيت الأبيض نحو التقارب مع طهران، قال أحد الناشطين في «اللوبي الإسرائيلي» لصحافي صديق مقيم بواشنطن: «علينا أن ننتظر نهاية عهد هذا الرئيس. لا أتوقع تحقيق أي تفاهم معه خلال السنتين المقبلتين». وفي المقابل، كان «لوبي النظام الإيراني» ينشط ويهنئ نفسه على نصر استثنائي ثمين. غير أن المعركة بين الجانبين الإسرائيلي والإيراني، كما يرى العقلاء، ليست معركة إلغاء... بل هي تنافس على الحصة الأكبر من «الوكالة» الأميركية الإقليمية، إذ لا حدود جغرافية «رسمية» بين الجانبين، وكل من الطرفين أذكى بكثير من أن يتوهم قدرته على إلغاء منافسه، أو تحدي واشنطن.

الأشهر القليلة المقبلة، على الأرجح، ستكون مرحلة مهمة للغاية في عمر الشرق الأوسط، وربما خارطته. والثابت أن العلاقات الشخصية بين الرئيس أوباما وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي فاترة أصلا، وازدادت سوءا خلال الفترة الأخيرة بالتوازي مع تقارب واشنطن مع إيران، ثم التسريب الإعلامي بالأمس لوصف مهين لنتنياهو جاء على لسان مسؤول في إدارة أوباما. وخلال انتخابات أمس، كان موقف اليمين الإسرائيلي صريحا ضد أوباما، ومن ثم، ضد الديمقراطيين. وحقا، أدرك الديمقراطيون هذه الحقيقة فاختار عدد من مرشحيهم خلال الحملة أن ينأوا بأنفسهم عن الرئيس لاقتناعهم بأنه بات عبئا عليهم وعلى فرص فوزهم.

اعتبارا من اليوم، سيجد البيت الأبيض نفسه مضطرا إلى اعتماد مقاربة جديدة مع حكومة «الليكود»، مع مراعاة ألا يقضي استرضاؤها على الاعتدال الفلسطيني الذي تمثله السلطة برئاسة محمود عباس. كذلك، أمامه اختبار مهم على صعيد المهلة الأخيرة للمفاوضات النووية مع إيران يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، لا سيما أن الطرفين الأميركي والإيراني حريصان على إنجاز اتفاق «يبيعه» كل منهما إلى شارعه على أنه «انتصار»، ويسجل عبره نقاطا على المعارضين المحافظين المتشددين في البلدين.

والوضع في كل من العراق وسوريا ولبنان، واليمن أيضا، ما عاد بالإمكان أن ينتظر إلى ما لا نهاية، لا سياسيا ولا ميدانيا. فضرب «داعش» والقوى المشابهة من الجو أثبت فشله، وكان لافتا كلام صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية أمس عن وجود خطة لنشر قوات أميركية على الأرض بحلول الربيع المقبل. في حين جاء تحذير وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس من سقوط مدينة حلب بأيدي نظام الأسد مؤشرا آخر لقلق باريس من سلبية واشنطن التي أهملت الثوار السوريين المعتدلين فأتاحت للمتطرفين السيطرة على معظم المناطق المحررة. أما لبنان، فما زال بلا رئيس منتخب بسبب إصرار «حزب الله» على فرض النائب ميشال عون رئيسا يكمل منظومة الأنظمة الحليفة للمشروع الإيراني.. وسط غليان طائفي في الشارع السني. وأخيرا، لا آخرا، يهدد الحوثيون اليمن بـ«سيناريو» كارثي تتحمل واشنطن جزءا لا بأس به منه.

أشهر ساخنة؟ حتما.