إلى أين يسير الشرق الأوسط؟!

TT

عندما تستبد بنا الحيرة، وتتقاطع الطرق، وتتعقد السبل، ولا يلوح ضوء في نهاية النفق، فإن السؤال يصير: إلى أين نحن ذاهبون في المقام الأول؟ كيف بدأت الرحلة؟ وماذا كان هدفها ساعة السفر؟ ما زلت أتصور ذلك الإلحاح الذي كان منتشرا في كل مصر طوال السنوات التي سبقت الثورة الأولى، وأينما ذهبت كان السؤال يأتي مصحوبا بالدهشة «هي البلد رايحة على فين؟!». هذه المرة كان السؤال مطروحا في الولايات المتحدة عندما تنقلت بين بوسطن وشيكاغو وفيلادلفيا ونيويورك، وأخيرا آن آربر بولاية ميشيغان، رغم اختلاف المؤسسات، وتعدد المواقع، وكلها متخصصة في حال الشرق الأوسط، إذا بها كلها تبحث عن إجابة عن الشرق الأوسط. لم يكن صعبا استكشاف المعضلة الأميركية التي ما إن خرجت من العراق، وأوشكت على الخروج من أفغانستان، إذا بها على وشك العودة مرة أخرى إلى العراق وسوريا في إطار الحرب العالمية على الإرهاب. وجاء الطرح بهذه الطريقة في النقطة المفصلية لانتخابات مجلس الشيوخ، لكي لا يعرف أحد ما إذا كانت مشكلة أميركا تهور إدارة جورج بوش الذي قاد أميركا إلى حروب خاسرة، أو أنها تعبير عن ضعف مزمن في إدارة أوباما الذي ترك فراغا للقوة دخلت تحتله جماعات فاشية دينية!

ولكن إذا تركنا أميركا لحالها، فإن السؤال يظل مطروحا علينا حتى ولو تقاطع بشكل أو آخر مع مستقبل الولايات المتحدة. وفي هذه الحالة لا بد من منهج؛ لأن قياس مستقبل الأقاليم لا يمكن خضوعه للعشوائية والتخمين، خاصة في لحظات مصيرية مثل تلك التي عاشتها وتعيشها منطقتنا. الظن هو أنه يمكن استطلاع المستقبل إذا عرفنا أولا: ما الذي سوف يحدث للدولة العربية في المقام الأول، وهي التي تعرضت لاختبار هائل خلال الأعوام الأربعة الماضية، وجاء الاختبار من منظمات نازعت الدولة حق استخدام القوة والعنف، وباختصار الإرهاب الذي عزم على العصف بالمؤسسات، وقدرة المجتمع على الاختيار والتوافق على ما تم اختياره. وحينما دخلت الطائفية إلى الساحة اختلط الحابل بالنابل، وعندما جرى الانهيار الاقتصادي، كما هو متوقع بعد الانهيار الأمني، فإن تدمير الدولة بات عمليات منظمة، وبشكل ما باتت المنظمات الأهلية التي يفترض فيها أنها تقوم بوظيفة سد الشقوق التي تعبث بأساسات الكيان السياسي للجماعة، فإنها أصبحت بتعبيرات «حقوقية» أداة للعبث نتيجة كونها جزءا من «العولمة» أكثر منها جزءا من الكيان الوطني. وزاد الطين بلة كما يقال، أن الإعلام وقف يرقص على أنغام أيام عصيبة، بإيقاعات ساخنة تجعل القلق مقدمة لشرخ وانكسار.

ولا بد أن نعرف - ثانيا - مصير السلطة التي داخت وتمت الإطاحة بها في موجات ما عرف بالربيع العربي الذي لم يعد أحد على يقين أنه كان ربيعا بعد أن انتابته رياح ساخنة محملة بالأتربة والرمال؛ كما لم يكن هناك ثقة أنه كان عربيا بقدر ما كان جزءا من عالم فقد الهوية والطريق. لقد اهتزت السلطة مع الإطاحة بأنظمة وقيادات كانت راسخة في أكثر من بلد عربي، وسارت بلدان أخرى في أشكال مختلفة من الحرب الأهلية، أما بلدان ثالثة فقد تعرضت أنظمتها لهزات عميقة. ومن عجب أن الثورة لم تكن تقدمية بالمرة حينما سلمت أوراقها وأعلامها إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين سرعان ما ظهر أنهم قمة جبل النار الذي تحته ترقد جبهات النصرة والأنصار من كل نوع، وأخيرا «داعش» الذي أقام خلافة على جماجم المذابح الجماعية. بارقة الأمل ظهرت مع حسم الجيوش الوطنية التي بقيت القوة المنظمة الوحيدة والقادرة على الخروج من المأزق. وصمدت الملكيات العربية في مواجهة العاصفة والرياح والأعاصير، كما فعلت في مواجهة موجات «ثورية» سابقة وممتدة منذ عقد الخمسينات وحتى الآن. هذه كان لديها من القدرة والحسم والعزم على أن تخط خطا على الرمال لم تنجح قوى الفوضى الثورية في اجتيازه.

وهكذا - ثالثا - تغيرت موازين القوى في المنطقة كلها عندما خرجت دول عربية أساسية من معادلات القوة الإقليمية مثل سوريا وليبيا، أو كادت تخرج مثل مصر لولا التحالف الشعبي مع القوات المسلحة للخروج من الغمة. ولعل قيام دول الخليج العربية، وفي المقدمة منها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت، بتقديم المساعدات لمصر، كان ولا يزال محاولة منها لإعادة توازن القوى إلى المنطقة مرة أخرى، وهي التي لم تعد تتحمل اختلالا آخر. فمع انفجار ليبيا وسوريا وقيام دولة «الخلافة» القائمة على الإرهاب على حدود سوريا والعراق، ومحاولة جماعات تابعة لـ«القاعدة» الاستيلاء على خط التماس بين دول شمال أفريقيا وباقي القارة الأفريقية جنوب الصحراء؛ فإن إعادة البناء الأمني للإقليم بدأت بدعم مصر، ومن بعدها إقامة التحالف الدولي والإقليمي لمواجهة «داعش» وأمثاله في المنطقة كلها.

كل ذلك - رابعا - يجعلنا نقترب من جدول أعمال النظام الإقليمي كله، وعلى رأس القائمة وقع استعادة «الدولة» مكانتها في الإقليم؛ لأنها الكيان السياسي الذي يضم المجتمعات العربية ويحد من انقسامها، وتفتتها، وتحويلها إلى بيئة صالحة لنمو الجماعات الإرهابية، وجعلها منصة انطلاق لتدمير من نجوا من المحرقة. وربما لم تكن هناك صدفة أن الإفاقة من الحالة الثورية بدأت بوضع دساتير جديدة كان ضروريا فيها مواجهة إشكالية «الدين والدولة» التي ظلت تؤرق مضاجعنا منذ بداية عصر الاستقلال، وحاولنا الهروب منها، إلا أنها باتت المطية التي تركبها جماعات العنف والتدمير. وعلى نفس الشاكلة فإن العلاقة ما بين «المدني» و«العسكري» باتت تحتاج إلى حل، وهي التي لم يعد ممكنا تجاهلها بعد عقود سبقت اختلت فيها العلاقة، وفي انتظار عهود جديدة لا ينبغي أن تختل فيها العلاقة مرة أخرى. بقية القائمة معروفة، حيث كانت معنا، ولا تزال قائمة في حالنا حول أفضل أشكال المشاركة السياسية، والعلاقة بين الدولة والسوق، وبمعنى آخر: إلى أي مدى تتدخل الدولة في الاقتصاد؟ وإلى أي حد تكون حرية السوق؟ باختصار، فإن كثيرا من الأسئلة المعلقة التي جرت محاولة تجاهلها خلال عقود ما قبل عهد الثورات لم يعد ممكنا تجاهلها في المستقبل القريب؛ لأننا دفعنا ثمن هذا التجاهل غاليا فيما نشهده في كثير من الدول العربية.

القائمة هكذا مرهقة، ولكن في ظل حال الدولة العربية، وما جرى للسلطة فيها، وما حدث من تغيرات في موازين القوى، فإن جدول الأعمال المزدحم يصير من طبيعة الأشياء. على أي الأحوال، هذه كانت إجابتي عن السؤال المذكور أعلاه!