رؤية مصرية لما جرى في مصر

TT

طوال الشهور الماضية تشكلت وجهة نظر العالم لما جرى في مصر منذ الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في 3 يوليو (تموز) 2013، وحتى ما عرف بأحداث «رابعة» و«النهضة» في 14 أغسطس (آب) من العام ذاته، بما جاء في تقرير المنظمة الأميركية «هيومان رايتس واتش»، وهي منظمة «حقوقية» زعمت أنها قامت باستجلاء هذه الفترة من التاريخ المصري، وتوصلت إلى نتائج تدين السلطات المصرية، وتكاد تعفي جماعة الإخوان المسلمين وحلفاءها من المسؤولية. الآن صدر تقرير اللجنة المصرية التي قامت بمباشرة التحقيق في أحداث العنف التي جرت في مصر منذ 30 يونيو (حزيران)، وحتى صدور التقرير. اللجنة جاءت بقرار من الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور، وجعلها برئاسة القاضي الدولي (عمل قاضيا في محاكمات البوسنة) وأستاذ القانون فؤاد عبد المنعم رياض الذي قام بتشكيل مجموعة من أفضل العقول المصرية المعروفة بالنزاهة لكي تقوم بالتحقيق في الموضوع.

النتائج التي توصلت إليها اللجنة تختلف كثيرا عما توصلت إليه المنظمة الأميركية، وكان أول الاختلافات حول موعد بداية ونهاية أحداث العنف. فبالنسبة لهذه الفترة، فإن البداية لدى المنظمة كانت في 30 يونيو عندما قامت الثورة المصرية الثانية وحتى أحداث «رابعة»، أما بالنسبة للجنة التحقيق المصرية، فإن البداية كانت يوم الجمعة 21 يونيو (سبق أن نبهنا إلى هذه النقطة في مقال سابق) عندما بدأت عناصر الإخوان المسلمين وحلفاؤهم في التجمع بالميادين العامة مهددة ومتوعدة. ولم يقتصر الخلاف على البداية، وإنما على النهاية أيضا، فالمنظمة اكتفت بأحداث رابعة وما أعقبها مباشرة من أحداث، أما اللجنة المصرية، فإنها قامت بنوعين من الامتداد: زمني يصل إلى الوقت الحاضر، وموضوعي لا يشمل الأحداث المتعلقة بفصائل «الإسلام السياسي» فقط، والتي توحشت بعد أحداث «رابعة»، وإنما يمتد إلى ظاهرة العنف كلها في البلاد التي تشمل أشكال العنف عند الأطفال والتحرش الجنسي وقانون التظاهر.

والخلاف الثاني كان حول المصادر التي اشتقت منها المنظمة واللجنة معلوماتها، وبينما اعتمدت المنظمة بشكل رئيسي على مصادر الإخوان وأصحابهم، ومصادر الإعلام؛ فإن اللجنة وإن فشلت في الحصول على رأي الإخوان، إلا أن مصادرها الموضوعية كانت متسعة إلى حد كبير؛ حيث لم تشمل فقط المصادر العامة المعروفة، ومحاضر أجهزة النيابة والتحقيق، وإنما كافة تقارير التشريح للجثث وتصاريح الدفن والأدلة الجنائية ومقابلات المسجونين.

الاختلاف الثالث كان حول سلمية المظاهرات، فرأي المنظمة أنه بينما ندر وجود السلاح، كانت المظاهرات والاعتصامات سلمية في معظمها؛ أما رأي اللجنة، فقد كان قاطعا في أن هذه كانت مسلحة بأشكال مختلفة من الأعيرة النارية والمفرقعات والمواد الكيماوية، فضلا عن أشكال أخرى من قنابل «المولوتوف» والأسلحة البيضاء، وكان استخدام كل ذلك منظما بما فيه استخدام غير المسلحين كسواتر لاستخدام السلاح الناري.

الاختلاف الرابع ارتبط بسلوك المعتصمين، فبالنسبة للمنظمة، وبعد أن تجاهلت ما جرى بين 21 يونيو وحتى 30 يونيو، فإنها رأت الاعتصامات «السلمية» ساكنة تعبر عن رأيها داخل مقار اعتصامها، فإن اللجنة هنا تضع النقاط على الحروف؛ حيث بدأ العنف فعليا منذ 21 يونيو بإرباك حركة المواصلات في العاصمة، وترويع السكان في المناطق المحيطة بأماكن تجمع الإخوان وحلفائهم. ولأن المنطلقات مختلفة، فإن النتائج كانت مختلفة، وبينما اعتبرت المنظمة أن الأحداث الخاصة بدار قوات الحرس الجمهوري وأمثالها في ذلك الوقت مجرد عمليات هجوم من الشرطة والجيش على معتصمين أبرياء، فإن اللجنة كانت قاطعة في أن المعتصمين لم يلزموا أماكنهم في أماكن الاعتصام وإنما قاموا بعمليات هجوم في خارجها ومنها دار الحرس الجمهوري؛ حيث كان هناك إصرار كامل منهم على اقتحامه. ورغم التحذيرات المتوالية، فإنهم قاموا بالهجوم مما ترتب عليه مقتل اثنين وإصابة 14، وبعدها قامت القوات بالرد.

الخلاف الخامس تعلق بما جرى في 14 أغسطس 2013، حيث اتخذت المنظمة موقفا يجعل مما حدث في الصين في ميدان السماء منذ ربع قرن سماويا، ومن ثم كان نوعا من القتل الجماعي.

وانطلاقا من هذه النظرة رأت أن أجهزة الشرطة لم تقدم التحذير الكافي للمعتصمين، وعندما فعلت لم تكن مسموعة، وعندما بدأت عمليات الفض لم تتدرج في استخدام أساليب القوة، بل إنها لم تعط وسيلة آمنة وكافية للمعتصمين للخروج مما ترتب عليه مقتل أكثر من ألف منهم. اللجنة هنا تضع الحق في نصابه، بل إنها تعيد ما تمت مشاهدته على شاشات التلفزيون؛ حيث طلب من محطات تلفزيونية، ومنظمات حقوقية الحضور ساعة فض الاعتصام، وجرى التحذير أكثر من مرة بمكبرات الصوت، واستخدمت الأسلحة الطنانة أولا، وبعدها أسلحة الماء، وقنابل الغاز، ولم يتم استخدام السلاح إلا بعد أن قامت عناصر من المعتصمين داخله وخارجه أيضا في العمارات المجاورة بإطلاق النيران على الشرطة.

وفي النهاية، فإن حصيلة يوم 14 أغسطس لم تكن ألفا بحال، بل كانت قتيلا في اعتصام رابعة، و في اعتصام النهضة، ورغم فداحة العدد بأي حال، فإن ذلك كان راجعا لإصرار جماعة من المعتصمين في رابعة على عدم فض الاعتصام رغم إنذارهم واستخدامهم المكثف للسلاح مع استخدام سواتر بشرية، أما بقية المعتصمين فقد خرجوا من الطريق الآمن الذي قررته الشرطة، أما في النهضة فقد طلب المعتصمون تدخل محافظ الجيزة للتفاوض والخروج الآمن، فتمت الاستجابة إلى طلبهم وجرى خروجهم من مبنى كلية الهندسة بجامعة القاهرة الذي لجأوا إليه. والمدهش أنه بعد خروجهم مباشرة اشتعلت النيران في أحد طوابق المبني!

لم تنته القصة لدى اللجنة عند فض الاعتصام؛ حيث رصدت استمرار العنف الذي قامت به جماعة الإخوان وأنصارها إذ قاموا بالهجوم على المحاكم ومحطات ومباني الشرطة والمباني العامة؛ حيث استخدمت أدوات الحرق والأسلحة المختلفة حتى وصل العنف إلى سيناء في شكل تنظيم دموي تحت اسم «أنصار بيت المقدس» الذي لم يقتصر عنفه على سيناء، بل إنه امتد إلى وادي النيل وأحيانا إلى الصحراء الغربية.

الفارق الهام بين اللجنة والمنظمة أنه بينما كانت الأخيرة تسعى إلى تأليب الرأي العام العالمي ضد مصر، فإن اللجنة وضعت مجموعة من التوصيات الهامة للدولة المصرية بعضه له جوهر سياسي والآخر قانوني، ورغم أن اللجنة ألقت بالمسؤولية السياسية والجنائية في الأحدث على جماعة الإخوان، لم يخل التقرير من نقد لجهاز الشرطة من حيث التدريب الضروري الذي كان من الممكن أن يجعل عدد الضحايا أقل؛ وكذلك من نقد للدولة فيما يتعلق بقانون التظاهر الذي رأت ضرورة تعديله. التقرير في مجمله شهادة مصارحة موضوعية مع الذات تستحق التقدير.