نقود السيارة أم تقودنا؟

TT

لا يوجد بلد في العالم لا تقود فيه المرأة السيارة إلا في السعودية، وهذا يعني أحد أمرين؛ إما أن نكون على حق والعالم مخطئ، أو نكون مخطئين والعالم مصيب. هذه المقارنة العمومية هي العنوان العريض للمتحمسات والمتحمسين لقيادة المرأة للسيارة في السعودية.

والنقاش حول هذا الموضوع مشروع، وحاصل منذ سنوات، وتحديدا منذ بدأت المرأة في السعودية تحصل تدريجيا على حقوق قانونية ووطنية كبرى كالمتعلقة بإثبات الهوية أو فرص العمل في مواقع وظيفية كانت إلى وقت قريب حكرا على الرجل. والمطالبات الحقوقية كالسلسلة تتلاحق حلقاتها واحدة تلو الأخرى، كلما اجتزنا مرحلة قفزنا للتي تليها.

من كان يتخيل أن المرأة السعودية لم يكن لديها إثبات لهويتها سوى ورقة تقول إنها تتبع أباها أو زوجها، وهذا ليس من زمن بعيد بل من بضع سنوات. لم تكن تملك ما يملكنه نساء العالم من بطاقة إثبات هوية، وهذا أمر ليس بالهين بل استثناء مريع، لأن وثيقة الهوية هي الاعتراف الرسمي بالمواطن وإثبات لكينونته، وينسحب عليها الكثير من الحقوق القانونية الضائعة، مع ذلك لم نسمع أن امرأة في المملكة احتجت في الشارع لإلزام الدولة على إثبات هويتها، بل ظلت تطالب بها حتى دعت الحاجة الأمنية وشروط تحقيق الأمن الاجتماعي الدولة إلى استصدار هوية مستقلة لكل امرأة. كان هذا هو الدافع، وليس لمضاهاة نساء العالم. واليوم يلزم النظام المرأة في السعودية على إصدار هويتها ويربط تقديم الكثير من الخدمات الحكومية والخاصة بإبرازها، لأنها باتت أداة ضرورية تتحقق من خلالها المصالح وتدرأ الكثير من المظالم.

أنا ومثلي شريحة واسعة من السعوديات، نتوق للحظة التي تقر الدولة للمرأة حق قيادة السيارة، لأنه احتياج يفرض نفسه كل يوم وليس لرغبتنا أن نكون مثل بقية النساء، فلا يوجد امرأة في العالم تملك كل ما تريد، ولا حتى السويسريات والسويديات. كنا ننتظر حصول المنى، والآن انتقلنا من مرحلة الانتظار إلى التوقع، خصوصا بعد انضمام 30 سيدة إلى مجلس الشورى، وتقدم بعضهن بمشروع متكامل لقيادة المرأة للسيارة موضحات فيه الأسباب الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي تستدعي التعجيل بإقرار النظام. صحيح أن المشروع لم يجد التدارس المأمول داخل أروقة المجلس، ولكنه ليس مجهودا ضائعا، بل له تقديره واعتباره من القيادة، ويكفي أنه خطوة في الطريق الصحيح، وطريق صحيح لتحقيق الخطوة.

أما اللاتي تجاوزن مرحلة المطالبة إلى فرض رغبتهن بالقوة من خلال مخالفة النظام فهن في الحقيقة تسببن في ضرر بالغ لهذه القضية ولم يخدمنها، لأنه من الصعب جدا التفكير في أن دولة مثل السعودية، لها ثقلها السياسي وقوتها الأمنية، يمكن لي ذراعها وإجبارها على إقرار لائحة داخلية تخص نظام المرور! حتى من كان يتعاطف ويؤيد هذا الحق سينفر منه وهو يرى النساء يضربن بالنظام عرض الحائط لجذب الأنظار والظهور الإعلامي.

رخيصة هذه المطالب إن جاءت على حساب الاستقرار والسلم الاجتماعي، خصوصا في ظروف يكثر فيها الخصوم على حساب الأصدقاء، ويصبح فيه الأقارب عقارب. وأولئك الذين يشجعون السعوديات في «تويتر» و«فيسبوك» على الخروج وقيادة السيارة رغم أنف النظام، هم في الحقيقة جبناء خلف مقود «تويتر»، يستحيل أن يزجوا ببناتهم وزوجاتهم في مثل هذا المغامرات من أجل فرض قناعاتهم الشخصية، مثلهم في ذلك مثل الذي يحث أبناء الغير على القتال في سوريا أو العراق، وأبناؤه ينامون بجانبه آمنين أو مبتعثين إلى أوروبا للتعلم، كلاهما جمهور خارج الملعب. النفس الثوري ليس دائما عبقا، بل كريه في معظم من نفخوا به صدورهم في مصر وتونس واليمن، وكثير من هؤلاء أودعوا السجون لأنهم فقدوا البوصلة، وتاهوا ما بين العاطفة الثورية التي تجنح بالمرء ضد قومه وأهل بيته أحيانا، والمصلحة العامة التي تعني الاستقرار الاجتماعي والاستتباب الأمني. الحقيقة أن دروس ما سمي بالربيع العربي واضحة جدا، دروس قاسية لكنها مفهومة، عظات لا يتجاهلها إلا الحمقى، وكما يقال فمن لا يرى من الغربال أعمى. الدول التي تعرضت لهذه الهزات عاشت مغامرة كبيرة لأنها سمحت فيها لأصحاب المصالح الشخصية والأطماع الذاتية بالتحكم في توجهات الشارع باسم الحقوق والعدالة الاجتماعية، حتى عمت الفوضى ووجد الناس أنفسهم مهددين في حياتهم وعرضهم ولقمة عيشهم، بل إن بعضهم كان يمنع ابنته أو زوجته من النزول للشارع لأنه لا يعلم ما قد تتعرض له من مخاطر. وبالنهاية لم يستقر الحال فيمن استقر حاله إلا من خلال عملية سياسية أرست قواعد العمل السياسي الذي منه تكتسب الحقوق الاجتماعية، وظل المخربون والمرجفون منسيين في سجونهم لم يعد يتذكرهم أحد.

منع المرأة من قيادة السيارة ليس كفرا ولا ظلما بواحا حتى يؤلب عليه الناس وتستقطب له وسائل الإعلام الغربية ويستذكر فيه المناضل نيلسون مانديلا، الذي اختار السجن على أن يكون سببا في تفكك المجتمع. بل إنها قضية مثل كثير من القضايا التي نأمل أن تحل قريبا، لتحصل المصلحة وتدرأ الفتن والأضرار. لا نريد هتك القانون وتحدي النظام، ولا أن نكسر بابًا لندخل عنوة إلى الغرفة المجاورة.. من الحكمة انتظار رب البيت ليسلمنا المفتاح، هذا من أدب الرعية.

المطالبات الحقوقية تستوجب الاستبصار، الذكاء لاختيار الزمان والمكان والأسلوب، ومن غير هذه العناصر تصبح مجرد مراهقة في الشارع، واستعراض سيرك.

[email protected]